كنت حاسر الرأس بين أربعة من الأوروبيين لم يعرفوا هويتي، ودخل علينا شاب متهيج يصيح هل يوجد أهالي هنا؟ فأجابه الجالس قرب الباب: كلنا فرنسيون. فذهب إلى الغرفة التي تلينا، وكنت منهمكا في قراءة جريدة (صدى الجزائر - إيكو دالجي) للمرة الثانية، متظاهرا بعدم فهم ما يجري حولي، ثم ركب معنا أحد المستعمرين، وأخذ يقص علينا أنباء الصباح الرهيب (بسطيف) وما حواليها، وأن مذبحة شرسة اشتعلت بكامل الناحية، وأن الإفرنسيين قد سيطروا على الموقف بعد التخلص من أكبر عدد من الأعداد، وأن البقية سيتم القضاء عليها حتما حتى يعلم هؤلاء (البيكو) أن الجزائر فرنسية إلى الأبد.
لم أكن أتوقع هذا أصلا، إلى أن وصلنا مدينة (قالمة) التي كانت تعيش حالة حرب حقيقية. كان الجيش يحتل المحطة، وكان جنوده يحيطون بجمع كبير من الرجال والشيوخ الذين جلسوا على الأرض، يحيط بهم الزبانية من كل مكان. وكنا نسمع أصوات الاستغاثة وصراخ العويل ممتزجا بأنين الألم، يأتينا من ناحية المدينة. ومكث القطار هنالك نحوا من الساعتين، كنت أرى خلالها من شباك المزجية، الطائرات الحربية وهي تلقي بقنابلها المحرقة على امتداد الأفق. وكنت أشاهد ألسنة اللهب وهي تتصاعد إثر انفجار كل قنبلة. كما كنت أسمع من بعيد أصوات الاستغاثة والبكاء والنحيب، وأرى من بعيد سائمة أدمية غفيرة العدد، تغدو وتروح، مفتشة عن ملجأ، فلم تجده، وما من رجل أو امرأة استطاع النجاة، إلا وحصدته بعد