كل هذا فيما يظهر لنا لأن البواعث لحركة المدنية العربية والعوامل في تقويمها ليست من جنس البواعث لمدنية الغرب وعواملها. السائق لمدنية الغرب كما لا ينكره أحد هو حب الذات وتوفير اللذات الطبيعية الجسمية المعتدلة والذهاب بالإبداع الصناعي غاية ليس وراءها غاية. ومن هذه البواعث نشأت عوامل مناسبة لها وهي المزاحمات والمضاربات واغتناء بيوت لدرجة تكاد تكون خيالية وفقر السواد الأعظم من الأمة فقراً مدقعاً واستحالة سياسة الشؤون العامة بيد البورصات وأصحاب رؤوس المال حتى صار التآزر بين الأمم تابعاً للمصلحة المالية الاقتصادية لا للحق والعدل. والساسة العصريون لا يخجلون من التصريح بذلك حتى قالوا إن السياسة لا دين لها ولا خلق ولكن المدنية العربية لم تستمد روحها من هذه البواعث ولا تشابه ما ذكرناه من العوامل فالباعث الأول لتكوين المسلمين كان لتكوين أمة فاضلة تنصر الحق وتؤيده وتخذل الباطل وتبدده وتدعو إلى كلمة الله وتنصرها وتؤدب الطغاة وتسحقها وتحدث في العالم انقلاباً نتيجته الخير والفلاح قال تعالى (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) وقال تعالى (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيد) من هذا الباعث الكبير نشأت العوامل الاجتماعية لتلك الحركة المدنية العربية. من تلك العوامل الاندفاع لإحقاق الحق وإزهاق الباطل والسعي لإقامة حكومة عادلة تقيم أمر القرآن وتبطل سنة الشيطان. والعمل للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاجتماع لإقامة الصلوات وبذل الصدقات والتوازر لترقية الروح وإعدادها للكمال الأقدس بنشر الفضيلة وبث الحكمة والتساعد لافتتاح الممالك والبلدان بقصد إمداد الأمة الإسلامية بالمادة لتقوى على نشر ما نيط بها من الدعوة للمعروف والنهي عن المنكر لا لتسهيل سبل التجارة وبز المال من الأمم المفتتحة كما هو الباعث للاستعمار في هذا القرن. على أمثال هذه البواعث والعوامل قامت المدنية العربية فدارت فيها حركة الحياة لا على التزاحم والتنافس والمضاربة بل على التراحم والتساهل والملاينة وهذه كلمة تزاحم وتنافس التي لا يؤاخذ من قالها ولا يلام من عمل بها حتى صارت تكتب فوق الدكاكين لاستجلاب الشارين بل صارت اسماً لألوف مؤلفة من محلات تجارية كانت هذه الكلمة إبان الحركة المدنية العربية من المخازي لا يقولها إلا الساقط العاري عن الفضيلة ولئن قالها فهمساً في أذن مشاكله ولا