للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

«الجامع»، أنه قال: رُبَّما كان المُرسَلُ أقوى من المُسنَد. وجَزَم بذلك عيسى بنُ أبانٍ من أصحابنا، وطائفةٌ من أصحاب مالك: أنَّ المُرسَلاتِ أولى من المسنَدَات. ووَجْهُهُ أن مَنْ أسنَدَ لك فقد أحالَكَ على (١) البحث عن أحوالِ مَنْ سَمَّاه لك، ومَنْ أرسَلَ من الأئمَّة حديثاً مع علمهِ ودينِهِ وثقتِهِ، فقد قَطَعَ لك على صحته وكَفَاكَ بالنَّظَر. وقالتْ طائفة من أصحابنا ومن أصحاب مالك: لسنا نقولُ: إنَّ المُرسَلَ أقوى من المُسنَد، ولكنهما سواءٌ في وجوب الحُجَّة. واستدلُّوا بأنَّ السلفَ أرسَلوا ووَصَلوا وأسندوا، فلم يَعِبْ واحدٌ منهم على صاحبِه شيئًا مِنْ ذلك.

ورَدَّ الشافعيُّ المُرسَل إلا أن يجيء من وجهٍ آخَرَ مُسنَداً، أو مُرسَلاً أرسَله عن (٢) واحد مِنْ غير رجال الأَوَّل، أو اعتَضَد بقولِ الصحابي، أو بقولِ أكثر أهل العلم، أو كان المُرسِلُ لا يُرسِلُ إلا عن عَدْل، هكذا نَصَّ عليه الإِمام فخرُ الدين والآمِدِي.

قال ابنُ الحاجِب: وقد أُخِذَ على الشافعي فقيل: إنْ أُسْنِدَ فالعمَلُ بالمُسنَدِ وهو وارِدٌ، وإنْ لم يُسنَدْ فقد انضمَّ غيرُ مقبولٍ إلى مِثْلِهِ، لكنَّ الشقَّ الثاني لم يَرِد، لأنَّ الظنَّ قد يحصل أو يقوى بالانضمام، والله سبحانه أعلم بحقائق المرام.

ثم اعلم: أنَّ المتأخّرِين اصطلحوا على تقسيم الحديث إلى صحيح، وحسن، وضعيف، ومُرسَل، ومُنقطِع، ومُعضَل، وغير ذلك من الأنواع المعروفة في أصول الحديث كما حققَّناه في «شرحنا» على «شرحِ النُّخبة» (٣) للحافظ ابن حَجَر العسقلاني، ثم رَدُّوا مِنْ ذلك المُرْسَلَ وما بعده.

وأمَّا المتقدّمون من السلف، فلم يَرُدُّوا شيئاً مِنْ ذلك، كما فَعَل الإِمامُ مالكٌ في «موطَّئه» كذلك، وذلك لعَدَمِ الفَرقِ عندهم بين المُرسَلِ والصحيحِ والحسَنِ، ويُطلقون المُرسَلَ على المنقطِع وعلى المُعْضَل. فإذا رأى مخالِفُنا أنَّا احتَجَجْنَا بأحاديثَ مرسلةٍ، أطلق عليها أنها ضعيفةٌ على اصطلاحهم ونَسَبنا إلى العَمَل بالحديثِ الضعيفِ المعارض للحديث الصحيح أو الحسَنِ بزعمه.


(١) لفظ: "على" زيادة من المخطوطة.
(٢) لفظ: "عن" زيادة من المخطوطة.
(٣) طُبع "شرح شرح نُخْبَة الفِكَر" لملا علي القاري في دار الأرقم بن أبي الأرقم بتحقيقنا، وقدّم له شيخنا الفاضل عبد الفتاح أَبو غُدَّة رحمه الله تعالى.

<<  <  ج: ص:  >  >>