ولو أسلم في رُطَبٍ فأخذ مثله تمراً، أو بالعكس، صحّ عند أبي حنيفة رحمه الله، نظراً إلى التَّساوي في الحال، ولم يصحّ عندهما نظراً إلى التَّفاوت في المآل. ولو أخذ دقيقاً، أو سَوِيقاً، أو مَقْلِيّاً عن بُرّ، أو أخذ دقيقاً عن سويقٍ أو بالعكس لا يصحّ لاختلاف الجنس فكان استبدالاً. وإن تقايلا عقد السَّلم مَنَعْنَا ربَّ السّلم شراء شيءٍ من المُسْلَم إليه برأس المال استحساناً. ولم يمنعه زُفَر قياساً، لأنه لمّا بطل السَّلم بقي رأس المال ديناً في ذمته، فيصحّ الاستبدال به كسائر الديون.
ولنا قوله صلى الله عليه وسلم:«مَنْ أسلم في شيءٍ، فلا يصرفه إلى غيره». رواه أبو داود، والترمذي وحسَّنه. ورواه الدَّارَقُطْنِيّ عن إبراهيم بن سعيد الجَوْهَرِيّ، ولفظه:«فلا يأخذ إلاّ ما أسلم فيه، أو رأس ماله».
(فصلٌ في الاستصناع)
(والاسْتِصْنَاعُ) استفعالٌ من الصنع، وهو العمل من نحو خُفَ وَطَسْتٍ. وصورته: أن يقول لخفّافٍ: اخرز لي خُفّاً من أديمك (١) يوافق رجلي، ويريه رجله بكذا (بأجَلٍ) يضرب مثله للسَّلم (سَلَمٌ) فيعتبر فيه شروطُ السَّلَم سواء (تَعَامَلُوا فِيهِ) كالخفاف (أوْ لَا) كالثياب. وقال أبو يوسف ومحمد: هو فيما تعاملوا فيه استصناعٌ، لأنه بلفظه فيحمل عليه، ويكون ذلك الأجل للاستعجال لا للاستمهال، بخلاف ما لم يتعاملوا فيه لأنّه استصناعٌ فاسدٌ، فيحمل على السَّلم الصحيح.
ولأبي حنيفة: أنّ الاستصناع يحتمل السَّلم، فكان حَمْلُه عليه أولى، لأنّ جوازه بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، وجواز الاستصناع بالتّعامل. وقيّدنا الأجل بكونه يُضْرب مِثْلُه للسَّلم، لأنّه لو قال: على أن يفرغه غداً، أو بعد غدٍ لا يكون سَلَماً، لأنّ ذكر المدة حينئذٍ للفراغ من العمل للمطالبة. وقال زفر والشَّافعيّ: لا يصحّ الاستصناع، وهو القياس، لأنّه لا يمكن تجويزه إجارةً، لأنه استئجار على العمل في ملك الآخر إذ الأديم ملك الصانع. ولا بيعاً لأنه بيع ما ليس عنده، ولا سلماً لفقد شرائطه، ولكن جوّزناه استحساناً بالتّعامل الراجع إلى الإجماع العملي من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليوم بلا نكيرٍ، والتّعامل بهذه الصفة أصلٌ مندرجٌ في قوله عليه الصلاة والسلام: «لا
(١) الأديم: الجلد. المعجم الوسيط. ص ١٠، مادة (أدم).