بسلام. وفي تلك الفترة وصل زوجي إلى المنزل. وجاء بعده ابني البكر يتيه شبابا غضا، وعزما قويا، ويضج وجهه بنور الإيمان، ولدى مشاهدته للجيران المجتمعين - من الإفرنسيين - توقف قليلا وتحدث إليهم مستوضحا الأمر، ومتجاهلا اطلاعه على شيء مما يحدث. وصدقه جارنا وقال له:(أنت، يا صغيري محمد، إنك بعيد عن الشبهات، ذلك لأنك لست من طبقة هؤلاء الثوار - الفلاقة - الذين لا يجيدون إلا القتل والتدمير). ولقد كان هذا الجار غبيا، إذ اعتقد أننا نختلف عن الثوار - الفلاقة -. المهم أنه لم يشك بأمرنا، وهو لم يعرف بأن ابني قد أصيب برأسه أثناء المعركة، لأننا أثرنا ضجيجا، وأعلنا أنه وقع من على دراجته.
أغلقنا على أنفسنا باب المنزل، عندما عاد الهدوء، وأطعمت بعض أفراد العائلة، في حين اكتفى الآخرون بتناول المهدئات - الاسبرين - والزهورات، ثم انصرفنا إلى أسرتنا، وجفانا النوم، حتى تجاوز الوقت منتصف الليل، ولم يعد هناك من صوت إلا أصداء خطوات الدوريات الإفرنسية وهي تقرع أرض الطريق.
...
مضت أشهر على هذا الحادث، وشعر ابني أن الموقف في العاصمة بات غير محتمل، وأدرك بأنه بات لزاما عليه العمل بصورة علنية، والانضمام إلى المجاهدين في الجبال للعمل إلى جانب إخوانه. وودعنا في اليوم الأول من إضراب الثمانية أيام. ولم نعد نراه بعد ذلك أبدا. وانقطعت أخباره انقطاعا تاما، ومضت سنتان عندما علمنا باستشهاده في جبال (حمام علوان) وفي تلك الفترة، لم يكن قد بقي منه إلا عظاما في الأرض التي أراد الدفاع عنها وتحريرها.