[إقامة الحدود في الغزو والحرم]
واعلم أنه في الغزو لا يقام الحد على الغازي، وإنما يترك حتى يرجع، وهذا من مفردات أحمد، وفيه آثار عن الصحابة تدل عليه، واختار ابن القيم الجوزية رحمه الله أنه إذا تاب توبةً نصوحاً، أو كانت منه نكاية في العدو؛ فإنه لا يقام عليه الحد، واستدل بقصة أبي محجن؛ فإن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لم يقم عليه الحد، والأثر في مصنف عبد الرزاق، ورواه ابن سعد وغيرهما، وهو أثر صحيح.
فلا يقام الحد في الغزو، ثم إن تاب توبةً نصوحاً، وظهرت منه التوبة، أو كانت منه نكاية بالعدو؛ فإنه لا يقام عليه الحد.
ونختم هذا الدرس بمسألة وهي: [أن من أتى حداً من حدود الله، أو قتل، ثم إنه لجأ إلى الحرم، وكان قد فعل ذلك في الحل، فإنه لا يقام عليه الحد حتى يخرج]، وهذا هو المشهور في مذهب أحمد، وهو قول الجمهور من التابعين، كما قال ابن القيم رحمه الله: ولا يعرف أن صحابياً ولا تابعياً خالفهم.
وفيه أثر عن ابن عباس رضي الله عنه رواه ابن جرير أنه قال: من قتل أو سرق في الحل، ثم دخل الحرم، فلا يجالس ولا يكلم ولا يؤوى، ولكنه يناشد حتى يخرج، فإذا خرج أقيم عليه الحد.
وعند ابن جرير عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: لو رأيت قاتل عمر في الحرم ما ندهته.
يعني: ما زجرته، ولا يعلم لهما مخالف.
ولقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران:٩٧]، وعلى ذلك فلا يقام عليه الحد، لكن يضيق عليه، فلا يؤجر إذا أراد أن يستأجر، ولا يباع منه شيء إذا أراد أن يشتري، ولا يجالس فإذا أتى إلى مجلس قاموا منه، ولا يؤوى، ويناشد أن يخرج، ويقال له: تب إلى الله واخرج.
لكن من أتى حداً في نفس الحرم فإنه يقام عليه الحد، فلو أن رجلاً زنى في الحرم أو قتل أو سرق فإن الحد يقام عليه.
فإن قيل: ما الفرق؟ نقول: الأول مستعيذ بالحرم لاجئ إليه، والآخر مستهين به قد اخترق حرمته.
وعلى ذلك فنقول: من أتى حداً أو قتل، ثم لجأ إلى الحرم فإنه يترك حتى يناشد أن يخرج ولا يعتدى عليه، ولكن يضيق عليه حتى يخرج؛ فإذا خرج أقيم عليه الحد.
ونقف عند هذا القدر، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.