فخرج رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وقال:"إنّ اللَّه ليُلَيِّن قلوبَ رجال حتى تكونَ أَلْيَنَ من اللين، وإن اللَّه ليشدِّد قلوبَ رجال حتى تكونَ أشدَّ من الحِجارة، مثَلُك يا أبا بكرٍ مثَلُ إبراهيم عليه السلام قال:{فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[إبراهيم: ٣٦]، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام حيث يقول:{إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة: ١١٨]، ومثَلك يا عمر كَمَثل نوح صلى اللَّه عليه قال:{رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}[نوح: ٢٦]، ومثَلك يا عمر مثل موسى عليه السلام إذ يقول:{رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ}[يونس: ٨٨]، أنتم عالة، فلا يَنفَلتَنّ منهم أحدٌ إلا بفِداء أو ضرب عنُق"، فقال عبد اللَّه -يعني ابن مسعود-: يا رسول اللَّه، إلا سهيل بن بيضاء، فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، قال: فما رأيتني في يوم أخوف مني في ذلك اليوم أن تقع علي الحجارة من السماء، حتى قال الرسول -صلى اللَّه عليه وسلم-: "إلا سهيل بن بيضاء"، فأنزل اللَّه تعالى:{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} الآيتين (١).
قال القاضي: فقد كان سبق في علم اللَّه وكتبه فيما جرى به القلم، أن سيحل ذلك لرسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، وأعلمه ذلك، ولم يُنكره عليه، وقد كان سبق الكتاب بالمغفرة لأهل بدر وكلِّ ما فعلوه، وسبقت لهم الشهادة، وسبق حكمه ألا يعذب أحدًا على شيء قبل أن يَتَقَدّم إليهم فيه، ولم يكن تَقدم فيهم، فأخبر عز وجل أنه لو لم يكن أحلَّها لهم، أو كان قد تقدم بالنهي لعذبهم، لأن الأمم كانت قبلهم لا تَحل لهم الغنائمُ والفداء، فكانوا يحرقونها، بل قيل: كانت نار
(١) رواه الإمام أحمد في مسنده برقم ٣٦٣٢، والترمذي مختصرًا برقم ٣٠٨٤، أبواب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الأنفال، وقال: "هذا حديث حسن، وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه".