الرابع: أنه عاتب داود عليه السلام عن زلَّة صدرت منه لكن لا نسلم أن تلك الزلة وقعت بسبب المرأة ولِم لا يجوز أن يقال: إن تلك الزلة إنما حصلت لأنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الخصم الثاني لأنه لما قال: «لقد ظلمت بسؤال نعجتك» حكم عليه بكونه ظالماً بمجرد دعوة الخصم بلا بينة فيكون هذا الحكم مخالفاً للصواب. فعند هذا اشتغل بالاستغفار والتوبة إلا أن هذا من باب ترك الأفضل والأولى فثبت بهذه البيانات أنا إِذَا حَمَلْنَا هذه الآيات على هذا الوجه فإنه لا يلزم إسناد شيءٍ من الذنوب إلى دَاودَ - عليه (الصلاة و) السلام - بل ذلك يوجب إسناد أعظم الطَّاعَاتِ إليه. ثم نقول: وحمل الآية عليه أولى لوجوه:
الأول: أن الأصل في حال المسلم البعد عن المناهي لا سيما وهو رجل من أكابر الأنبياء والرسل.
الثاني: أنه أحوط.
الثالث: أنه تعالى قال في أول الآية لمحمد (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ) : «اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ» فإن قوم محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما أظهروا السفاهة حيث قالوا: إنه ساحرٌ كذاب، واستهزأوا به حيث قالوا: ربَّنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب، فقال تعالى في أول الآية: اصبر على ما يقولون يا محمد وعلى سفاهتهم وتحمل ولا تظهر الغضب واذكر عبدنا داود فهذا الذكر إنما يحسن إذا كان داود عليه السلام قد صبر على أذاهم وتحمل سفاهتهم وحَلِمَ ولم يظهر الطيش والغضب وهذا المعنى إنما يحصل إذا حملنا الآية على ما ذكرناه.
أما إذا حملنا الآية على ما ذكروه صار الكلام متناقضاً.
الرابع: أن تلك الرواية إنما تتمشى إذا قلنا: إن الخَصْمَيْن كانا ملكين وإذا كانا ملكين ولم يكن بينهما مخاصمة ولم يبغ أحدُهما على الآخر كان قولهما: «خَصْمَان بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ» كذب فهذه الرواية لا تتم إلا بشيئين.
أحدهما: إسناد الكذب إلى الملائكة.
والثاني: إسناد أفحش القبائح إلى رجل كبير من أكابر الأنبياء وأما إذا حملنا الآية على ما ذكرنا استغنينا عن إسناد الكذب إلى الملائكة وعن إسناد القبيح إلى الأنبياء، فكان قولنا أولى.