لما تكلم على طَرِيقَة المُنَافِقِين، أخَذَ يتكَلَّم على مَذَاهَب اليَهُودِ والنَّصَارى ومناقضاتهم، وذكر في آخِرِ هذه السُّورَةِ من هذا الجِنْسِ أنْوَاعاً:
أولها: إيمَانهم ببعْضِ الأنبياءِ دون بعضٍ؛ لأنهم كَفَرُوا بمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فبيَّن أن الكُفْرَ به كُفْرٌ بالكُلِّ؛ لأن ما مِنْ نَبِيٍّ إلا وقد أمَر قَوْمَه بالإيمانِ بمُحَمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وبجميع الأنْبِيَاء.
قال المُفَسِّرون: نزلت هذه الآيةٌ في اليَهُودِ، وذلِك أنَّهُم آمَنُوا بمُوسَى، والتَّوْرَاة، وعُزَيْر، وكَفَرُوا بعيسى، والإنْجِيل، وبمُحَمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، والقرآن، {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} أي: بين الإيمانِ بالكُلِّ وبَيْن الكُفْرِ بالكُلِّ سَبِيلاً، أي: وَاسِطَة، وهي الإيمانُ بالبَعْضِ دُون البَعْضِ، وأشير ب «ذلك» وهو للمُفْرَد، والمُرَادُ به: البَيِّنَة، أي: بين الكُفْرِ والإيمانِ، وقد تَقَدَّم نظيرها في البَقَرَة، وفي خَبَرِ «إنَّ» قولان:
الأول: أنه مَحْذُوف، تقديره: جمعوا المخازي.
والثاني: هو قوله: {أولئك هُمُ الكافرون} والأوَّل أحْسَن لوجهين:
أحدهما: أنه أبْلَغُ؛ لأن الجواب إذا حُذِفَ ذهب الوَهْمُ كُلَّ مَذْهَبٍ، فإذا ذكر بَقِي مُقْتَصِراً على المَذْكُورِ.
والثاني: أنه رأسُ آيةٍ، والأحْسَن ألا يكون الخَبَرُ مُنْفَصِلاً عن المُبْتَدأ، و «بَيْنَ» يجوزُ أن يكونَ مَنْصُوباً ب «يَتَّخِذُوا» ، وأن يكُون مَنْصُوباً بمحْذُوفٍ؛ إذ هو حَالٌ من «سَبيلاً» .
قوله:«حَقّاً» فيه أوجه:
أحدها: أنه مصدر مؤكِّد لمضْمُون الجُمْلَة [قَبْلَه] ، فيَجِبُ إضْمَارُ عَامِلِه وتأخيرُه عن الجُمْلَة المؤكِّد لَهَا، والتقدير: أحُقُّ ذلك حَقاً، وهكذا كُلُّ مَصْدَر مؤكِّدٍ لِغَيْره أو لِنَفْسِهِ.