لمَّا أمره بالإنفاق في الآية المتقدمة، علَّمه في هذه الآية أدب الإنفاق.
واعلم أنه تعالى وصف عباده المؤمنين، فقال تعالى {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً}[الفرقان: ٦٧] .
فها هنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف، فقال تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} أي لا تمسك عن الإنفاق، بحيث تضيف على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرَّحم، أي: لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط، {وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} أي: ولا تتوسَّع في الإنفاق توسُّعاً مفرطاً بحيث لا يبقى في يدك شيءٌ.
والحكماءُ ذكروا في كتب الأخلاق أنَّ لكلِّ خلق طرفي إفراطٍ وتفريطٍ، وهما مذمومان، والخلق الفاضل هو العدل والوسط، فالبخل إفراطٌ في الإمساك، والتبذير إفراطٌ في الإنفاقِ، وهما مذمومان، والمعتدل الوسطُ.
روى جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال:«أتى صبي فقال: يا رسول الله، إنَّ أمِّي تَسْتَكسِيكَ دِرْعاً، ولم يكُنْ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلَاّ قميصهُ، فقال للصبيِّ: من ساعةٍ إلى ساعةٍ يظهرُ كذا فعدِّ وقتاً آخر، فعاد إلى أمِّه فقالت: قل له: إنَّ أمِّي تَسْتكسِيكَ الدِّرع الذي عليك، فدخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دَارهُ، ونزعَ قَمِيصهُ، فأعطاهُ، فقعد عُرياناً، فأذَّنَ بلالٌ بالصَّلاةِ، فانتظره، فلم يخرج، فشغل قُلوبَ أصحابه، فدخل عليه بعضهم فَرآهُ عُرْيَاناً» ، فأنزلَ الله تعالى {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} يعني لا تمسك يدك عن النفقةِ في الحقِّ كالمغلولة يده، ولا يقدر على مدِّها، «ولا تَبْسُطهَا» بالعطاء «كُلَّ البَسْطِ» فتعطي جميع ما عندك.
و {كُلَّ البسط} : نصب على المصدر؛ لإضافتها إليه، و «فَتقْعُدَ» نصب على جواب