لما حثَّهُم على الانْقِيَاد للتَّكَالِيف، وهي مع كثرتها مَحْصُورَةٌ في نَوْعين: التَّعْظِيم لأمر اللَّه، والشَّفقة على خَلْقِ اللَّه.
قوله:{كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ} إشارةٌ على التَّعْظيم لأمر اللَّه، ومعنى القيام للَّه: هو أن يَقُومَ للَّه بالحقِّ في كلِّ ما يَلْزَمه، وقوله:«شُهَدَاء بالقسطِ» إشارةٌ إلى الشَّفقة على خَلْقِ اللَّه، فيه قولان:
الأوَّل: قال عطاءُ: لا تُحاب من شهادتِكَ أهْل وُدِّك وقَرابتِك، ولا تمنع شهادتك أعداءَك وأضْدَادَك.
الثاني: أمرهم بالصِّدْق في أفْعالهم وأقوالهم، وتقدَّم نَظِيرُها في «النِّسَاء» ، إلَاّ أنَّ هناك قدَّم لَفْظَة «القِسْط» وهنا أخِّرَت، وكأنَّ الغَرَضَ في ذلك - والله أعلم - أنَّ آية «النِّسَاء» جِيء بها في مَعْرِض الإقْرَارِ على نَفْسِهِ ووالِدَيْه وأقَارِبِه، فَبُدِئ فيها بالقِسْطِ الذي هو العَدْلُ من غير مُحَابَاة نَفْسٍ، ولا والِدٍ، ولا قَرَابَةٍ، والَّتِي هنا جِيءَ بها في [مَعْرِض] ترك العداوة، فبُدِئ فيها [بالأمْر] بالقِيام لِلَّه، لأنَّهُ أرْدَعُ لِلْمُؤمنين، ثم ثُنِّي بالشَّهادة بالعَدْلِ، فَجِيءَ في كُلِّ مَعْرضٍ بما يُنَاسِبُه.
وقوله:«وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ» تقدَّم مثله، وكذلك «شَنَآنُ قَوْمٍ» .
قوله تعالى:{على أَلَاّ تَعْدِلُواْ} .
أي لا يحملَنَّكُم بُغْضُ قومٍ على أن لا تَعْدلُوا، وأراد: لا تَعْدِلوا فيهم فَحُذِفَ لِلْعِلْم به، وظُهُور حرف الجرِّ هنا يرجحُ تَقْدِيرهُ.
قيل: والمعنى: ولا يَحْمِلَنَّكُم [بُغْضُ] قوم على أن تجُورُوا عَلَيْهم، وتتَجاوزُوا الحدَّ، بل اعْدِلُوا فيهم، وإن أسَاءُوا إلَيْكم، وهذا خِطَابٌ عامٌّ، وقيل: إنَّها مُخْتَصَّةٌ بالكُفَّار، فإنَّها نزلت في قُرَيْشٍ لما صَدُّوا المُسْلِمين عن المَسْجِد الحَرَام.
قوله:{اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} .
نهاهم أوَّلاً عن أن يَحْمِلَهُم البَغْضَاءُ على ترك العدلِ، ثم اسْتَأنَفَ فصرَّح لهم بالأمْر