قوله: «لأكْثَرِهِمْ» فيه وجوه:
الظَّاهِرُ أنَّهُ متعلقٌ بالوجْدانِ كقولك: ما وجدتُ له مالاً أي: ما صَادَفْتُ له مالاً ولا لقيته.
الثاني: أن يكون حالا من «عهدِ» ؛ لأنَّهُ في الأصل صفة نكرةٍ فلما قُدِّم عليها نُصب على الحال، والأصْلُ: ما وجدنا عهداً لأكثرهم، وهذا ما لم يذكر أبُوا البقاءِ غيره.
وعلى هذين الوجهين ف «وَجَدَ» متعدِّية لواحد وهو «من عَهْدٍ» ، و «منْ» مزيدةٌ فيه لوجود الشرطين.
الثالث: أنَّهُ في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً لوجَدَ إذ هي بمعنى علمية، والمفعول هو «مِنْ عَهْدٍ» . يترجَّحُ هذا بأنَّ «وَجَدَ» الثانية علمية لا وجدانيَّة بمعنى الإصابة، وسيأتي دليل ذلك. وإذا تقرَّر هذا فينبغي أن تكون الأولى كذلك مطابقة للكلام ومناسبة له، ومن يرجّح الأوَّل يقولُ: إنَّ الأولى لمعنى، والثَّانية لمعنى آخر.
فصل في معنى الآية
قال ابن عباس: يريدُ: وما وجدنا لأكثرهم من عهد، الوفاء بالعهد الذي عاهدهم عليه وهم في صلب آدم حيث قال: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: ١٧٢] .
وقال ابن مَسْعُودٍ: «المرادُ بالمعهد هاهنا الإيمان، لقوله تعالى: {إِلَاّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} [مريم: ٨٧] أي قال: لا إله إلا الله» .
وقيل: المرادُ بالعهدِ وضع الأدلَّةِ على صِحَّةِ التَّوحيد والنَّبوة [تقديره:] وما وجدنا لأكثرهم من الفواءِ بالعهد.
قوله: «وَإنْ وَجَدْنَا» «إنْ» هذه هي المخفَّفةُ وليس هنا عاملة لمباشرتها الفعل فَزَالَ اختصاصُهَا المُقْتَضِي لإعمالها.
وقال الزَّمخشريُّ: «وإنَّ الشَّأن والحديث وجدنا» .
فظاهِرُ هذه العبارة أنَّها مُعْملَة، وأنَّ اسمها ضميرُ الأمر والشَّأن، وقد صرَّحَ أبُو البقاءِ هنا بأنَّها معملةٌ، وأن اسمها محذوف، إلا أنَّهُ لم يقدِّره ضمير الحديث بل غيره فقال: «واسمها محذوفٌ أي: إنَّا وَجَدْنَا» . وهذا مذهب النَّحويين أعني اعتقاد إعمال المخفَّف من هذه الحروف في «أن» المفتوحة على الصَّحيح، وفي «كأن» التَّبيهية، وأمَّا «إنْ» المخففة المكسورة فلا. وقد تقدَّم إيضاحه.
ووجدنا هنا متعدية لاثنين أولهما «أكْثَرَهُم» ، والثاني «لفاسقين» ، قال الزمخشريُّ: والوجود بمعنى العلم من قولك: وجدتُ زيداً ذا الحفاظ بدليل دخول «إنْ» المخفَّفة، واللَاّم الفارقة ولا يسوغ ذلك إلَاّ في المبتدأ والخبر والأفعالِ الدَّاخلة عليهما يعني أنها مختصة بالابتداء، وبالأفعال النَّاسخِة له، وهذا مذهبُ الجُمْهُورِ، وقد تقدَّم الخلافُ عن الأخْفَشِ أنَّهُ يجوزُ على غيرها، وتقدَّم دليله على ذلك، واللَاّمُ فارقة وقيل: هي عوض من التَّشديد.
قال مَكيٌّ: «ولزمت اللَاّمُ في خبرها عوضاً من التشديد والمحذوف الأوَّلِ» ، وقد تقدَّم أنَّ بعض الكوفيين يجعلون «إن» نافية، واللَاّم بمعنى «إلَا» في قوله تعالى:
{وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} [البقرة: ١٤٣] .
ومعنى فاسقين خارجين عن الطَّاعةِ، ماريقين عن الدِّين، وقيل: ناقضين العَهْدَ.
وقوله: «لأكْثَرهُم» ، و «أكْثَرهُم» ، و «من بعدهم» : إنْ جعلنا هذه الضَّمائر كلَّها للأمم السَّالِفَةِ فلا اعتراضَ، وإن جعلنا الضَّمير في «لأكثرهُم» و «أكْثَرهُمْ» لعموم النَّاسِ والضَّمير في «من بعدهم» للأمم السَّالِفَةِ كانت هذه الجملة - أعني ما وجدنا - اعتراضاً كذلك قاله الزمخشري، وفيه نظر؛ لأنَّهُ إذا كان الأوَّلُ عاماً ثم ذكر شيء يندرجُ فيه ما بعده وما قبله كيف يُجْعل ذلك العامُّ معترضاً بين الخاصين.
وأيضاً، فالنَّحْويُّون إنما يعرفون الاعتراض فيما اعترض به بين متلازمين، إلَاّ أنَّ أهل البيان عندهم الاعتراض أعمُّ من ذلك، حتَّى إذا أتي بشيء بين شيئين مذكورَيْنِ في قصَّةٍ واحدة سَمَّوه اعتراضاً.