قد تقدَّم في أول هذه السورة أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الرُّوح، فقوله تعالى:{وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين} هو ذلك السؤال، واختلفوا في ذي القرنين، فقيل: هو الإسكندر بن فيلبوس اليونانيُّ، وقيل: كان اسمه مرزبان بن مرزبة من ولد يونان بن ثافث بن نوحٍ، وكان اسود، قال بعضهم: كان نبيًّا، لقوله تعالى:{إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض} والأولى حمله على التمكين في الدِّين، والتَّمكين الكامل في الدِّين هو النبوة، ولقوله تعالى:{وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} ومن جملة الأسباب النبوة، فمقتضى العموم أنه آتاهُ من النبوة سبباً، ولقوله تعالى:{ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} والذي يتكلَّم الله معه لا بد وأن يكون نبياً. قال ابو الطفيل، وسئل عن ذي القرنين: أكان نبيًّا أم ملكاً؟ قال: لم يكن نبياً، ولا ملكاً، ولكن كان عبداً أحبَّ الله، فأحبَّه الله، وناصح الله فناصحه.
روي أنَّ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - سمع رجلاً يقول لآخر:«يَا ذَا القرنين» فقال: تسمَّيتم بأسماء النبيين، فلم ترضوا حتى تسمّيتم بأسماء الملائكة. والأكثرون على أنه كان ملكاً عادلاً صالحاً، واختلفوا في سبب تسميته بذي القرنين قيل: لأنه بلغ قرني الشمس: مشرقها ومغربها، وأيضاً: بلغ ملكه أقصى الشمال، لأنَّ «يأُجوجَ ومأجُوجَ» قومٌ من التركِ يسكنون في أقصى الشمالِ، فهذا المسمَّى بذي القرنين قد دلَّ القرآن على أنَّ ملكه بلغ أقصى المغرب والمشرق والشمال، وهذا نهاية المعمور من الأرض، ومثل هذا الملك البسيط على خلاف العادات، فيجب أن يبقى ذكره مخلّداً على وجه الدهر لا يخفى، والذي اشتهر في كتب التواريخ أن الذي بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا الإسكندر، وذلك أنه لمَّا مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان طوائف، ثم قصد ملوك العرب وقهرهم، وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر، ثم عاد إلى مصر، فبنى الإسكندرية، وسمَّاها باسم نفسه، ثم دخل الشَّام، وقصد بني إسرائيل، وورد «بيت المقدس» ، وذبح في مذبحه، ثم انعطف إلى «أرمينيَّة» و «باب الأبواب» ودان له العراقيُّون، والقبط، والبربر، ثم توجه نحو دارا بن دارا، وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حرسه، واستولى