وثالثها: قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} يفيد الحصر، ومعناه أن حسنة هذه الدنيا لا تحصل إلا للذين أحسنوا وهذا باطل. أما لو حملنا هذه الحسنة على حسنة الآخرة صح هذا الحَصْرُ فكان حمله على حسنة الآخرة أولى.
قوله:{وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ} قال ابن عباس: يعين ارتحلوا من مكة، وفيه حَثٌّ على الهجرة من البلد الَّذِي يظهر فيه المعاصي، ونظيره قوله تعالى:{قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا}[النساء: ٩٧] .
وقيل: نزلت في مهاجري الحبشة، وقال سعيد بن جبير: من أمر بالمعاصي فليهربْ، وقال أبو مسلم: لا يمتنع أن يكون المراد من الأرض أرض الجنة؛ لأنه تعالى أمر المؤمنين بالتقوى وهي خشية الله، ثم بين أن من اتقى فله في الآخرة الحسنة وهي الخلود في الجنة، ثم بين أن أرض الله أي جنته واسعة كقوله تعالى:
{نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ}[الزمر: ٧٤] وقوله تعالى: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: ١٣٣] قال ابن الخطيب: والأول عندي أولى لأن قوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} لا يليق إلا بالأول.
قوله:{إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي الذين صبروا على دينهم فلم يتركوه للأذى، وقيل: نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حيث لم يتركوا دينهم لما اشتد بهم البلاء وصبروا وهاجروا قوله: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بغير نهاية؛ لأن كل شيء دخل تحت الحساب فهو متناهٍ فما لا نهاية له كان خارجاً عن الحساب قال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: كل مطيع يكال له كيلاً أو يوزن له وزناً الصابرين فإنه يُحْثَى لهم حثياً، يروى: أنه يؤتى بأهل البلاء فلا ينصب لهم ميزانٌ ولا ينشر لهم دوانٌ ويُصَبّ عليهم الأجر صَبًّا قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض ما ذهب به أَهل البلاء من الفضل.