اختلفوا في أن قولهم: يا مالك ليقضي علينا ربك على أي الوجوه طلبوه؟ فقال بعضهم: على التمني. وقال آخرون: على وجه الاستغاثة، وإلا فهم عالمون بأنه لا خلاص لهم من ذلك العقاب. وقيل: لا يبعد أن يقال: إنهم لشدة ما هم فيه نَسُوا تلك المسألة تذكرة على وجه الطلب. ثم إنه تعالى بين أن مالكاً يقول لهم:«إنكم ماكثون» وليس في القرآن متى أجابهم، هل أجابهم في الحال أو بعد ذلك بمدة؟ ثم إنه تعالى ذكر بعد ذلك ماهو كالعلة لذلك الجواب فقال:{لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} والمراد نُفْرَتُهُمْ عن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعن القرآن، وشدّة بغضهم لقبول الدين الحق.
فإن قيل: كيف قال: «وَنَادَوْا يَا مَالِكُ» بَعْدَ مَا وَصَفُهمْ بالإبْلَاسِ؟
فالجواب: أنها أزمنةٌ متطاولة، وأحقابٌ ممتدة فتختلف بهم الأحوال فَيْسكُنُونَ أوقاتاً لغلبة اليأس عليهم ويستغيثون أوقاتاً لشدة ما بهم. روي أنه يُلْقَى على أهل النار الجوع حتى يعدل ما هم فيه من العذاب فيقولون: ادعوا مالكاً فيَدْعُونَ يا مالكُ لِيَقْضِي عَلَيْنَا رَبُّكَ.
ولما ذكر الله تعالى كيفيةَ عذابهم في الآخرة، ذكر بعده كيفية مكرهم، وفساد باطنهم في الدنيا فقال:{أَمْ أبرموا أَمْراً} أي أحكموا أمراً في المكر برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعني مشركي مكة «فإنَّا مُبْرِمُونَ» محكمون أمراً في مجازاتهم أي مبرمون كيدنا كما أبرموا كيدهم كقوله تعالى: {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون}[الطور: ٤٢] . قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم في المكر في دار الندوة وقد تقدم في قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ ... }[الأنفال: ٣٠] الآية. قوله:«أمْ أَبْرَمُوا» أم منقطعة. والإبرام الإتقان وأصله في الفتل يقال: أَبْرَمَ الحَيْلَ، أي أتْقَنَ فَتْلَهُ وهو الفَتْلُ الثاني، والأول يقال له: سَجِيلٌ قال زهير: