فصل
روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما: إن الله تعالى قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيّاً اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، وأَسْلم سَلَمَةُ، ومهاجراً أَبَى أن يسلم، فنزلت هذه الآية الكريمة.
قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: «إلَاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» خَسر نفسه.
وقال الكلبي: «ضلّ من قتل نفسه» .
وقال أبو البقاء، وأبو عبيدة: «أهلك نفسه» .
وقال ابن كيسان والزجاج: «جهل نفسه» ؛ لأنه لم يعرف الله تعالى خالقها، وقد جاء «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ» .
وقال ابن بحر: معناه جهل نفسه، وما فيها من الدلالات والآيات الدالة على أن لها صانعاً ليس كمثله شيء، فيعلم به توحيد الله وقدرته.
وهذا معنى قول الزجاج رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لا يفكّر في نفسه من بيدين يبطش بهما، ورجلين يمشي عليهما، وعينين يبصر بهما، وأذنين يسمع بهما، ولسان ينطق به، وأضراس نبتت له عند غناه عن الرضاع، وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام، ومَعِدَة أعدّت لطبخ الغذاء، وكبد يصعد إليها صَفْوه، وعروق ينفذ بها إلى الأطراف، وامعاء يرتكز إليها نقل الغذاء، فيبرز من أسفل البدن، فيستدل بها على أن له خالقاً قادراً عليماً حكيماً وهذا معنى قوله تعالى: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} {الذاريات: ٢١] .
قوله: {وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا} اخترناه من سائر الخلق في الدنيا، وإنّه في الآخةر عظيم المنزلة.
[قال الحسين بن فضيل: فيه تقديم وتأخير تقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين، وإذا صح الكلام من غير تقديم وتأخير كان أولى. وقال الحسن: من الذين يستحقون الكرامة وحسن الثواب] .
قوله: «فِي الآخِرَةِ» فيه خمسة أوجه:
أحدها: أنه متعلّق بالصالحين على أن الألف واللام للتعريف، وليست موصولة.
الثاني: أنه متعلّقة بمحذوف تقديره أعني في الآخرة كقولك: بعد سقياه.
الثالث: يتعلق بمحذوف أيضاً، لكن من جنس المفلوظ به أي: وإنه لصالح في الآخرة لمن الصالحين.