قال ابن الخطيب: ويجوز أن يكون من السَّعَة أي أوْسَعْنَاهَا بحيث صارت الأرض وما يحيط بها من الماءِ والهواء بالنسبة إلى سعتها داخل فيها والبناء الواسع الفضاء عجيب، فإِنَّ القُبَّة الواسعة لا يقدر عليها البَنَّاؤُونَ، لأنهم محتاجون إِلى إقامة آلة يصح بها استدارتها، ويثبت بها تَمَاسُك أجزائها إلى أن يتصل بعضها ببعض. فقوله:«وإنا لموسعون» بيان للإعراب (في الفعل) .
فصل
والحكمة في كَثْرة ذكر البناء في السموات كقوله تعالى:{والسمآء وَمَا بَنَاهَا}[الشمس: ٥] ، وقوله:{أَمِ السمآء بَنَاهَا}[النازعات: ٢٧] أن بناء السماءِ باقٍ إلى قيام الساعة، لم يسقط منها شيء، ولم يُعْدَم منها جزءٌ. وأما الأرض فَهي في التبدل والتغير كالفراش الذي يُبْسَط ويُطْوَى ويُنْقَلُ، والسماء كالبناء المبنيّ الثابت كما أشار إليه بقوله:{سَبْعاً شِدَاداً}[النبأ: ١٢] وأما الأرض فكَمْ صارت بحراً، وعادت أرضاً من وقت حدوثها، وأيضاً فالسماء ترى كالقُبَّةِ المبنية فوق الرؤوس، والأرض مبسوطة مَدْحُوَّة، وذكر البناء بالمرفوع أليق كقوله تعالى:{رَفَعَ سَمْكَهَا}[النازعات: ٢٨] .
وقال بعض الحكماء: السماء مسكَن الأَرْوَاحِ، والأرض موضع الأعمال والمسكن أليق بكونه بناءً. والله أعلم.
فإن قيل: ما الحكمة في تقديم المفعول على الفعل ولو قال: وبَنَيْنَا السَّمَاءَ بأيدٍ كان أَوْجَز؟! .
فالجواب: قال ابن الخطيب: لأن الصُّنْعَ قبل الصانع عند الناظر في المعرفة، فلما كان المقصود إثبات العلم بالصانع قدم الدليل وقال: والسَّمَاء المبنية التي لا تشُكُّون في بُنْيَانِها، فاعْرفونا بها إِن كنتم لا تَعْرِفُونَنَا.
فإن قيل: إذا كان إثبات التوحيد فكيف قال: بَنَيْنَاها، ولم يقل: بَنَيْتُها؟ ولا بناها الله؟!
فالجواب: أن قوله: بنيناها أدل على عدم الشريك، لأن الشّركة ضعيفة؛ فإن الشريكَ يمنع شَريكه عن التصرف والاستبداد، وقوله:«بَنَيْنَاهَا» يدل على العَظَمَة، وبين العظمة والضعف تنافرٌ فبين قوله:«بَنَيْنَاهَا» وبين أن يكون شريك منافاة. وتقريره أن قوله تعالى:{بَنَيْنَاهَا} لا يورث إيهاماً بأن الآلهة التي كانوا يعبدونها هي التي يرجع إليها