والجواب: أنه تعالى في الآية المتقدمة لما حذر أمة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - عن اتْباع اليهود والنصارى بقوله تعالى:{وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين}[البقرة: ١٤٥] أخبر المؤمنين بحاله - صلوات الله وسلامه عليه - في هذه الآية فقال: العلماء يا معشر المؤمنين أن علماء أهل الكتاب يعرفون محمداً، وما جاء به وصدقه ودعوته وقِبْلَتَه لا يشكّون فيه كما لا يشكون في أبنائهم.
السؤال الثاني: هذه الآية نظيرها قوله تعالى: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل}[الأعراف: ١٥٧] وقال: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ}[الصف: ٦] إلا أنّا نقول: من المستحيل أن يعرفوه كما يعرفون أبناءهم، وذلك لأنه وصفه في التوراة والإنجيل: إما أن يكون قد أتى مشتملاً على التفصيل التام، وذلك إنما يكون بتعيين الزمان والمكان والصفة والخِلْقة والنَّسَب والقبيلة، أو هذا الوصف ما أتى من هذا النوع من التفصيل، فإن كان الأول وجب أن يكون بمقدمه في الوقت المعين، من البلد المعين، من القبيلة المعينة على الصفة المعينة معلوماً لأهل المشرق والمغرب؛ لأن التوراة والإنجيل كانا مشهورين فيما بين أهل المشرق والمغرب، ولو كان الأمر كذلك لما تمكن أحد من النصارى واليهود من إنكار ذلك.
وأما القسم الثاني: فإنه لا يفيد القطع بصدق نبوة محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنا نقول: هَبْ أن التوراة اشتملت على أن رجلاً من العرب سيكون نبيّاً إلا أن ذلك الوصف لما لم يكن منتهياً في التفصيل إلى حَدّ اليقين، لم يلزم من الاعتراف به الاعتراف بنبوّة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
والجواب: أن هذا الإشكال إنما يتوجذه لو قلنا بأن العلم بنبوته إنما حصل من اشتمال التوراة والإنجيل على وصفه، ونحن لا نقول به، بل نقول: إنه ادّعى النبوة، وظهرت المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبياً صادقاً، فهذا برهان، والبرهان يفيد اليقين، فلا جرم كان العلم بنبوة محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقوى وأظهر من العلم ببنوّة الأبناء، وأبوة الآباء.
السؤال الثالث: فعلى هذا الوجه الذي قرّرتموه كان العلم بنبوة محمد - صلوات الله وسلامه عليه - علماً برهانياً، غير محتمل للغَلَطِ.
أما العلم بأن هذا ابْني فذلك ليس علماً يقينياً، بل ظن ومحتمل للغلط، فلم شبه اليقين بالظن؟
والجواب: ليس المراد أن العلم بنبوة محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يشبه العلم ببنوّة الأبناء، بل المراد به تشبيه العلم بأشخاص الأبناء وذواتهم، فكما أن الأب يعرض شخص ابنه معرفة لا يشتبه هو عنده بغيره فكذا هاهنا، وعند هذا يستقيم التشبيه، لأن هذا العلم ضروري وذلك نظري، وتشبيه النظري بالضروري يفيد المبالغة وحسن الاستعارة.