وقال ابن عطية: لما كان قوله: «لا أعْبدُ» محتملاً أن يراد به الآن، ويبقى المستقبل منتظراً ما يكون فيه جاء البيان بقوله:{وَلَا أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أبداً وما حييت، ثم جاء قوله:{وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} الثاني حتماً عليهم أنهم لا يؤمنون أبداً كالذي كشف الغيب، كما قيل لنوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:
{لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلَاّ مَن قَدْ آمَنَ}[هود: ٣٦] ، فهذا معنى التَّرديد في هذه السورة، وهو بارع الفصاحة، وليس بتكرار فقط، بل فيه ما ذكرته انتهى.
وقال الزمخشريُّ:«لا أعبد» أريد به العبادة فيما يستقبل؛ لأن «لا» لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال، كما أن «أن» لا تدخل إلَاّ على مضارع في معنى الحال، ألا ترى [أنَّ «لَنْ» تأكيد فيما تنفيه «لا» .
وقال الخليل في «لن» : إن أصله:] «لا أن» والمعنى: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي {وَلَا أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ} أي: ما كنت قط عابداً فيما سلف ما عبدتم فيه، يعني: لم تعهد مني عبادة صنمٍ في الجاهلية فيكف ترجى مني في الإسلام؛ {وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} أي: وما عبدتم في وقت وما أنا على عبادته.
فإن قلت: فهلَاّ قيل: ما عبدت كما قيل: ما عبدتم؟ .
قلت: لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المبعث، وهو لم يكن ليعبد الله - تعالى - في ذلك الوقت.
فإن قلت: فلم جاء على «ما» دون «من» ؟ قلت: لأن المراد الصفة كأنه قال: لا أعبد الباطل، ولا تعبدون الحق.
وقيل: إن «ما» مصدرية، أي: لا أعبد عبادتكم، ولا تعبدون عبادتي انتهى.
[يعني أنه أريد به الصفة، وقد تقدم تحقيق ذلك في سورة «والشمس وضحاها» ] .
وناقشه أبو حيَّان، فقال: أما حصره في قوله: لأن «لا» لا تدخل، وفي قوله: إنَّ «مَا» تدخل، فليس بصحيح، بل ذلك غالب فيهما، لا متحتم، وقد ذكر النحاةُ دخول «لا» على المضارع يراد به الحال، ودخول «ما» على المضارع يراد به الاستقبال، وذلك مذكور في المبسُوطات من كتب النحو. ولذلك لم يذكر سيبويه ذلك بأداة الحصر، إنما قال: وتكون «لا» نفياً، لقوله:«نفعل» ولم يقع الفعلُ، قال:«وأمَّا» مَا «فهي نفي، لقوله: هو يفعل إذا كان في حال الفعل. فذكر الغالب فيهما.