فصل في الاختلاف في أصل ليس
الجمهُور على أن «لَيْسَ» فعلٌ وقال بعضُهُمْ إنه حرفٌ حجَّة القائلين بأنَّها فعلٌ:
اتصالُ الضمائر بها الَّتي لا تتصلُ إلَاّ بالأَفْعال؛ كقَولك، «لَسْتُ، ولَسْنَا، ولَسْتُمْ» ، و «القَوْمُ لَيْسُوا قَائِمِينَ» ، وهذا منقوضٌ بقوله: «إِنَّنِي، ولَيْتَنِي، ولَعَلَّني» .
وحجَّة مَنْ قال بأنَّهَا حرفٌ أمور:
الأوَّل: أنَّها لو كانت فعلاً، لكانت فعلاً ماضِياً ولا يجوزُ أن تكون فعلاً ماضياً؛ لاتفاق الجمهُور على أَنَّهُ لِنَفيِ الحالِ، والقائلُونَ بأَنَّه فعْلٌ قالوا: إنه فعْلٌ ماضٍ.
وثانيها: أَنَّهُ يدخلُ على الفعْلِ، فنقول: «لَيْسَ يَخْرُجُ زَيْدٌ» ، والفعلُ لا يدخُلُ على الفعْل عَقْلاً ونقلاً.
وقولُ مَنْ قال: «إن لَيْسَ» داخلٌ على ضمير القصَّة، والشأن، وكونُ هذه الجملةِ تفسيراً لذلك الضَّمير ضعيفٌ؛ فإنَّهُ لو جاز ذلك، جاز مثلُه في «مَا» .
وثالثها: أَنَّ الحرف «مَا» يظهرُ في معنَاهُ في هذه الكَلِمَة، فإنك لَو قُلْتَ: «لَيْسَ زَيْدُ» لم يتمَّ الكلام، لا بُدَّ أن تقول: «لَيْسَ زَيْدٌ قَائِماً» .
ورابعُها: أن «لَيْسَ» لو كان فعْلاً، لكان «ما» فعلاً، وهذا باطلٌ، فذاك باطلٌ، بيان الملازمةِ: ان «لَيْسَ» لو كان فعْلاً لكان ذلك لدلالَتِهِ على حُصُول معنى السَّلْب مقترناً بزمان مخْصُوصٍ، وهو الحالُ، وهذا المعْنَى قائمٌ في «مَا» فيجبُ أن تكونَ «مَا» فعْلاً، فلَمَّا لم يكُنْ هذا فعْلاً، فكذلك القَوْل في ذلك أو تكون في عبارةٍ أُخْرَى: «لَيْسَ» كلمةٌ جامدةٌ، وضعت لنَفْي الحالِ، فأشبهت «مَا» في نفْي الفعليَّة بذلك.
وخامسُها: أنَّك تَصِلُ «مَا» بالأفْعَال الماضيةِ، فتقولُ: «مَا أَحْسَنَ زَيْداً» ، ولا يجوزُ أنْ تصلَ «مَا» ب «لَيْسَ» فلا تَقُولُ: «مَا لَيْسَ زَيْدٌ يَذْكُرُكَ» .
وسادسها: أَنَّه على غير أوزَانِ الفِعْل.
وأجابَ القَاضِي، والقائلُونَ بالفعليَّة عن الأَوَّل بأنَّ «لَيْسَ» قد يجيءُ لنفي المَاضِي بمعنَاه؛ كقولهم: «جَاءَنِي القَوْمُ لَيْسَ زَيْداً» .
وعن الثَّاني أنه منقوضٌ بقولم: «أَخَذَ يَفْعَلُ كَذَا» .
وعن الثَّالث: أنه منقوضٌ بسائر الأفعال النَّاقِصَة.
وعن الرَّابع: أنَّ المماثَلَة مِنْ بعض الوجوه لا تَقتضي المماثلة من كُلِّ الوُجُوه.
وعن الخَامِس: أَنَّ ذلك إِنَّمَا امتنع مِنْ قِبَلِ أَنَّ: «مَا» للحال و «لَيْسَ» للماضي، فلا يمكنُ الجَمْع بينهما.