فصل.
من جعل الآية الكريمة في غير الزَّكاة، أدخل في هذه الآية المسلم والكافر، روى الحسن بن علي بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: «للسَّائِل حَقٌّ، وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ» ، وقال تعالى: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: ١٩] .
الأمر الثالث في تحقيق مسمَّى البِرِّن قوله: {وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة} وقد تقدَّم: قوله {وَفِي الرقاب} متعلِّق ب «آتى» وفيه وجهان:
أحدهما: أن يكون ضمن «آتى» معنى فعل يتعدى لواحد؛ كأنه قال: وضع المال في الرِّقَاب.
والثاني: أن يكون مفعول «آتى» الثاني محذوفاً، أي: آتى المال أصحاب الرِّقاب في فكِّها، أو تخليصها؛ فإنَّ المراد بهم المكاتبون، أو الأسارى، أو الأرقَّاء يشترون، فيعتقون، وكلٌّ قد قيل به.
والرِّقَابُ: جمع «رَقَبَةٍ» ، وهي من مؤخَّر أصل العنق، واشتقاقها من «المراقبة» ؛ وذلك أن مكانها من البدن مكان الرَّقِيب المشرف على القوم؛ وبهذا المعنى: يقال: «أَعْتَقَ اللهُ رَقَبَتَهُ» ، ولا يقال: «أَعْتَقَ اللهُ عُنُقَهُ» ؛ لأنها لما سمِّيت رقبةً؛ كأنها تراقب العذاب، ومن هذا يقال للتي لا يعيش ولدها «رَقُوبٌ» ؛ لأجل مراقبة موت ولدها.
قوله: {وَأَقَامَ الصلاة} عطف على صلة «مَنْ» ، وهي: «آمَن، وآتى» وإنما قدم الإيمان، لأنه رأس الأعمال الدينيَّة، وثنَّى بإيتاء المال؛ لأنه أجلُّ شيء عند العرب، وبه يمتدحون، ويفتخرون بفكِّ العاني: وقِرَى الضِّيفان، ينطق بذلك نظمهم ونثرهم.
قوله {والموفون بِعَهْدِهِمْ ... } في رفعة ثلاثة أوجه:
أحدها: ذكره الزمخشري: أنه عطف على «مَنْ آمَنَ» أي: ولكنَّ البرَّ المؤمنون والموفون.
والثاني: أن يرتفع على خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الموفون، وعلى هذين الوجهين: فنصب الصابرين على المدح؛ بإضمار فعل، وهو في المعنى عطف على «مَنْ آمَنَ» ، ولكن لما تكرَّرت الصِّفات، خولف بين وجوه الإعراب.
قال الفارِسيُّ: وهو أبلغ؛ لأن الكلام يصير مشتملاً على جملٍ متعددةٍ، بخلاف اتّفاق الإعراب؛ فإنه يكون جملةً واحدةً، وليس فيها من المبالغة ما الجمل المتعدِّدة.
وقال أبو عبيدة: ومن شأن العرب، إذا طال الكلام: أن يغيِّروا الإعراب والنَّسق؛ كقوله تعالى في سورة النساء: {والمقيمين الصلاة} [النساء: ١٦٢] وفي المائدة: {والصابئون} [المائدة: ٦٩] وقال الفرَّاء: إنما رفع «المُوفُونَ» ، ونصب «الصَّابِرِينَ» ؛