والقاتلُ، فيكون العافِي أحدَهُما، ولا يجوزُ أن يكونَ القاتلَ لأَنَّ ظاهر العْفو هو إسقاطُ الحقِّ، وذلك إنَّما يتأتَّى من الوليِّ الذي له الحقُّ على القاتل، فصار تقديرُ الآية: فإذا عَفَى وَلِيُّ الدَّم عن شيءٍ يتعلَّق بالقاتِلِ، فليتبع القاتلُ ذلك العفو بمَعْروف.
وقوله «شيء» مبهمٌ، فلا بدَّ من حمله على المذكُور السَّابق، وهو وجوب القِصَاصِ؛ إزالةً للإبهام، فصار تقدير الآية: إِذَا حصَلَ العْفُو للقاتلِ عن شيءِ فلْيُتْبع القاتِلُ العَافِيَ بالمَعْروف، والأداء إِلَيْه بالإِحْسَان. وبالإجْماع لا يجبُ أداءُ غيْر الدِّية؛ فوجب أن يكُون ذلك الواجبُ، هو الدِّيةَ؛ وهذا يدلُّ على أنَّ موجِبَ العمد هو القَوَد، أو المال؛ إِذْ لو لم يكُنْ كذلك، لما كان واجباً عنْد العفو عن القَودِ، والله تعالى أعلَمُ.
ومما يؤكِّد هذا قولُه تعالى:{ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} ، أي أثبَتَ الخيارَ لَكُمْ في أخْذ الدية، والقِصَاص؛ رحمةً عَلَيْكُم، لأَنَّ الحُكم في اليَهُود حتْمُ القِصَاصِ، والحُكمَ في النَّصَارَى حتمُ العفوِ؛ فخفّف عن هذه الأمَّة، وشَرَع لهم التخييرَ بين القِصَاص، والعَفْوِ، وذلك تخفيفٌ من الله ورحمةٌ في حقِّ هذه الأمَّة؛ لأنَّ وليَّ الدم قد تكون الديةُ عنْده آثَرَ مِن القَوَدِ، إذا كان محتاجاً، وقد يكون القَوَدُ عنده آثَرَ، إذا كان راغباً في التشفِّي، ودفْع شر القاتلِ عنْ نَفْسهِ، فجعل الخِيَرةَ فيما أحبَّهُ؛ رحمةً من الله في حقِّه.
فَإِنْ قيل: لا نسلِّم أَنَّ العافِيَ هو وليُّ الدمِ، والعفو إسقاطُ الحقِّ، بل المراد من قوله:{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} أي فمَنْ سَهُلَ له مِنْ أخيه شيءٌ، يقال: أتَانِي هذا المالُ عَفْواً صَفْواً، أي: سهلاً، ويقال: خُذْ ما عُفِيَ، أي: ما سَهُلَ؛ قال تبارك وتعالى:{خُذِ العفو}[الأعراف: ١٩٩] ، فتقديرُ الآيةِ: فمَنْ كان من أولياءِ الدَّم، وسَهُلَ له مِنْ أخيه الَّذي هو القاتِلُ شيءٌ من المالِ، أو سَهُلَ له من جهة أخِيه المَقْتُولِ، أي: بسب أخِيهِ المَقْتُولِ، فإِمَّا أن يكون أخَاه حقيقةً، وإِمَّا أن تكون قرابَتُهُ غيْر الأخوَّة، فسمَّاه أخاً مجازاً؛ كما سمَّى المقتول أخاً للقاتل، والمراد: فمن كان من أولياء الدم وسَهَّلَ، فليتبعْ وليُّ الدم ذلك القاتِلَ في مطالَبَةِ ذلك المالِ، وليؤدِّ القاتلُ إلى وَلِيِّ الدَّم ذلك المال بالإحْسَان؛ منْ غَيْر مطل، ولا مدافعة، فيكون معنَى الآيَةِ؛ على هذا التقدير: «إنَّ الله تعالى حَثَّ الأَوْلِيَاءَ، إِذَا دُعُوا إلى الصُّلْحِ من الدَّمِ على ديتهِ كُلِّها، أو بَعْضها: أَنْ يرضَوْا بِهِ؛ ويعْفُوا عن القَوَد.
سلَّمنا أن العَافِيَ هو وَلِيُّ الدم، لكن لا يجوز أن يقال: المرادُ هو أن يكون القِصَاصَ مشتركاً بين شريكَيْن؛ فيعفُو أحدهما فحينئذٍ ينقلب نصيبُ الآخَر إلى الدِّية، والله تعالى أَمَرَ الشريكَ السَّاكت باتِّباعَ القاتلِ بالمَعْروف، وأمر القاتل بالأداء إِلَيْه بإِحْسَان.
سلَّمنا أن العافِيَ هو وليُّ الدم، سواءٌ كان له شريكٌ، أوْ لمَ لكُنْ لِمَ لا يَجُوز أن يُقَالَ إن هذا مَشْروطٌ بِرضا القاتِلِ إِلَا أَنَّه تبارك وتعالى لم يذكُر رضا القاتِل؛ لأنه ثابتٌ معروفٌ لا محالة، لأَنَّ الظاهر مِنْ كلِّ عاقلٍ أنَّه يبذلُ كلَّ الدنيا لَغَرَضِ دَفْع القَتْل عن