فإن قيل: إنَّ القرآن نَزَلَ عَلَى محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مُدَّة ثلاثٍ وعشرين سَنَةً مُنَجَّماً مُبَعَّضاً، فما معنى تخصيص إنزاله برَمَضَان؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّ القرآن أُنزل في ليلة القدر جملةً إلى سماء الدنيا، ثُمَّ نَزَل إلى الأرض نُجُوماً.
روى مقسّم عن ابن عبَّاسٍ أنه سُئِلَ عن قوله عزَّ وجلَّ:{شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} وقوله {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر}[القدر: ١] ، وقوله {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}[الدخان: ٣] وقد نزل في سائر الشُّهُور، وقال عزَّ وجلَّ:{وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ}[الإسراء: ١٠٦] فقال: أُنْزِلَ القرآن جملةً واحدةً من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى بيت العزَّة في السماء الدُّنيا، ثم نزل به جبريل - عليه السَّلام - على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نجوماً في ثلاث وعشرين سنة، فذلك قوله:{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم}[الواقعة: ٧٥] وقال داود بن أبي هندٍ: قلت للشَّعبيِّ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} أما كان ينزل في سائر السنَّة؟ قال: بلى، ولكن جبريل كان يعارض محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في رمضان ما أنزل الله إليه فيحكم الله ما يشاء، ويثبت ما يشاء، وينسيه ما يشاء.
وروي عن أبي ذرٍّ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:«أُنْزِلَتْ صُحُفُ إبْرَاهيمَ في ثَلَاثِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرَ رَمَضَانَ» ويُروى: «في أَوّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ» وأُنْزِلَتْ تَوْرَاةُ مُوسَى في سِتِّ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وأُنْزِلَ إنْجِيلُ عِيسَى في ثَلَاثِ عَشَرَةَ ليلة مِنْ رَمَضَانَ، وأُنْزِلَ زَبُورُ دَاوُدَ في ثَمانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وأُنْزِلَ الفُرْقَانُ عَلَى محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأرْبَع وعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، ولستٍّ بَقِينَ بَعْدَهَا، وسنذكر الحكمة في إنزاله منجماً مفرَّقاً في سورة «الفُرْقَان» عند قوله: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً}[الفرقان: ٣٢] .