وهذا النوع من باب التشبيه لا من الاستعارة؛ لأنَّ الاستعارة هي أن يُطْوَى فيها ذكر المشبَّه، وهنا قد ذكر وهو قوله:{مِنَ الفجر} ، ونظيره قولك:«رَأَيْتُ أَسَداً مِنْ زَيْد» ، لو لم تَذْكُر:«مِنْ زَيْدٍ» لكان استعارةٌ، ولكنَّ التشبيه هنا أبلغُ؛ لأنَّ الاستعارة لا بُدَّ فيها من دلالةٍ حاليةٍ، وهنا ليس ثمَّ دلالةٌ، ولذلك مَكَثَ بعضُ الصحابة يَحْمِلَ ذلك على الحقيقة مدةً، حتَّى نزل «مِنَ الفَجْرِ» فتركت الاستعارة، وإن كانت أبلغ لما ذكرنا.
فإن قيل: إنَّ بياضَ الصُّبح المشبه بالخيط الأسود هو بياض الصبح الكاذبُ؛ لأنَّ مستطيلٌ كشبه الخيط، وأما الصُّبْحُ الصادق، فهو بياضٌ مستديرٌ مستطيلٌ في الأفق، فلزم على مقتضى الآية كون أوَّل النهار من طلوع الصُّبحِ الكاذب، وليس كذلك بالإجماع.
فالجواب: أنَّ قوله {مِنَ الفجر} بيَّن أن المراد به الصُّبح الصادق، لا يكون منتشراً، بل يكون صغيراً دقيقاً، فالصادق أيضاً يبدو دقيقاً، ويرفع مستطيلاً. والفجر مصرد قولك فَجَرْتُ المَاءَ أَفْجُرُه فَجْراً وفجَّرْتُهُ تَفْجِيراً، قال الأزهريُّ: الفَجْرُ أصله الشَّقُّ، فعلى هذا هو انشقاقُ ظُلْمَة اللَّيل بنُورِ الصُّبح.
فصل
زعم أبو مسلم الأصفهاني: أنه لا شيء من المفطِّرات إلَاّ أحد هذه الثَّلاث، وما ذكره الفقهاء من تكلُّف القيءِ والحقنة والسَّعوط، فلا يفطر شيءٌ منها.
قال: لأنَّ كلَّ هذه الأشياء كانت مباحةً ثم دلَّت هذه الآية الكريمة على حرمة هذه الثلاثة على الصَّائم بعد الفجر، وبقي ما سواها عل الإباحة الأصليَّة، والفقهاء قالوا: خصوا هؤلاء بالذِّكْر؛ لأنَّ النَّفس تميل إليها.