ومعنى قوله:«وَلَا تَعْتَدُوا» أي: لا تقتُلُوا النِّسَاء والصِّبيانَ، والشيخَ الكبير والرُّهبان، ولا من ألقى إليكم السَّلَمَ؛ قاله ابن عبَّاس ومجاهد وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبَّاس: نزلت هذه الآية في صلح الحديبية؛ وذلك أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - خرج مع أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - إلى العُمرة وكانوا ألفاً وأربعمائة، فنزَلُوا الحُديبة، وهو موضعٌ كثيرُ الشَّجر، والماء، فصدَّهم المُشركون عن دخول البيت الحرام، فأقامَ شهراً، لا يقدرعلى ذلك، ثم صالَحُوهُ على أنْ يَرجع ذلك العام، ويرجع إليهم في العام الثَّاني، ويَتْرُكون له مكَّة ثلاثَ أيامٍ، حتَّى يَطوفَ، وَيْحَرَ الهَدْي، ويَفْعَل مَا يَشَاءُ، فرضي الرَّسُولُ - صلواتُ الله وسلامُهُ عليه دائماً أبداً - بذلك، فلمَّا كان العامُ المقبل، تجهَّز رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، ومَجَّد، وعَظَّم - وأصحابه لُعْمرة القضاء وخافوا ألَاّ تَفِي قريشٌ بما قالوا، وأن يَصُدُّوهم عن البيت، وكره أصحابُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتالَهُمْ في الشهر الحرام، وفي الحرَم، فأنزل الله تعالى:{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} يعنى محرمين {الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} يعني قُرَيْشاً «وَلَا تَعْتَدُوا» فتَبْدَءوا بالقتالِ في الحَرَمِ محرمين.
فصل في اختلافهم في المراد من قوله {الذين يُقَاتِلُونَكُمْ}
اختلفُوا في المراد بقوله:{الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} : إمَّا على وجه الدَّفع عن الحجِّ، أو على وجه المقاتلة ابتداءً.
وقيل: قاتلوا كُلَّ مَنْ فيه أهليةٌ للقتالِ سوى جُنحٍ للسَّلم؛ قال تعالى:{وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا}[الأنفال: ٦١] .
فإن قيل: هب أنه لا نسخ في الآية؛ فما السَّبب في أنَّ الله تبارك وتعالى أمر أوَّلاً بقتال من يقاتل، ثُمَّ في آخر الأمر، أذن في قتالهم، سواءٌ قاتلوا، أو لم يقاتلوا؟
فالجواب: أنَّ في أوَّل الأمر كان المسلمون قليلين، وكانت المصحلة تقتضي استعمال الرِّفق، والمجاملة، فلمَّا قوي الإسلام، وكَثُر الجمع، وأقام مَنْ أقام منهم على الشِّرك بعد ظهور المعجزات، وتكرُّرها عليهم، وحصل اليأس من إسلامهم، فلا جرم أمر الله تعالى بقتالهم على الإطلاق.