وهذا ضعيفٌ، فإنَّ الآية الأولى دالَّةٌ على الأمر بقتال مَنْ يقاتلنا، وهذا الحُكمُ لم ينسخ، وأمَّا أنَّها دالَّةٌ على المَنْع من قتال مَنْ لم يقاتل، فهذا غير مسلَّم، مع ما نقل عن الرَّبيع بن أنس. وأما قوله: إنَّ هذه الآية، هي قوله تبارك وتعالى {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام} منسوخة بقوله تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} فهو خطأ أيضاً؛ لأنَّه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكمُ غير منسوخ.
قوله {والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} فيه وجوه:
أحدها: نقل ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنّ الفتنة هي الكُفر.
وروي أنَّ بعض الصحابة قتل رجُلاً من الكُفَّار في الشَّهر الحَرَام، فعابه المؤمِنُون على ذكل، فنزلت هذه الآية الكريمة، والمعنى: أنَّ كفرهم أشدُّ من قتلهم في الحرم والإحرام.
وثانيها: أن الفتنة أصلها عرض الذَّهب على النَّار؛ لاستخلاصه من الغِشِّ، ثُمَّ صار اسماً لكُلِّ ما كان سبَباً للامتحان؛ تشبيهاً بهذا الأصل، والمعنى: أنَّ إقْدَامَ الكُفَّار على الكُفْر، وعلى تخويف المؤمنين، وإلجائهم إلى ترك الأهلِ، والوَطن؛ هرباً من إضلال الكُفَّار، فإنَّ هذه الفتنة الَّتي جُعِلت للمؤمنين أشَدُّ من القتل الذي يقتضي التَّخليص من غموم الدُّنيا وآفاتها.
وثالثها: أنَّ الفتنة هي العذاب الدَّائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم، فكأنه قيل: اقتُلُوهُم حيثُ ثَقِفْتُمُوهم، واعلَمُوا أن وراءَ ذلك مِنَ العذابِ ما هو أشدُّ منه وإطلاقُ اسم الفتنة على العذاب جائزٌ؛ وذلك من باب إطلاق اسم السَّبب على المُسَبَّب، قال تبارك وتعالى:{يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ}[الذاريات: ١٣] ثم قال عقبيه {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ}[الذاريات: ١٤] أي عذابكم {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات}[البروج: ١٠] أي عذّبوهم وقال {فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله}[العنكبوت: ١٠] أي: عذابهم كعذابه.
ورابعها: أنَّ المراد: «فتنتهم إيَّاكُمْ بَصدِّكُمْ عن المسجد الحرام أشدُّ من قتلِكُمْ إيَّاهُمْ في الحرم» .
وخامسها: أن الردَّة أشدُ من يُقْتَلُوا بحقٍّ، والمعنى: أخروجهم منْ حيثُ أخرجوكُمْ، ولَو قُتِلْتُمْ، فإنَّكم إن قُتِلْتُم، وأنتم على الحقِّ، كان ذلك أسهل عليكُم من أنْ ترتدُّوا عن دِينكُمْ، أو تتكاسلوا عن طاعة ربِّكم.