وجوابه ما بينا: أَنَّ هذا لا يليقُ بضده، ثم اختلف القائلُون بهذا القول: مَتَى كانوا مُتّفقين على الكُفر على ما قَدَّمنا ثُمَّ سأَلُوا أَنفسهم سُؤالاً وقالوا: أليس فيهم مَنْ كان مُسْلماً كهابيل، وشيث، وإدريس.
وأجابوا: بِأنَّ الغالب كان هو الكُفْر، والحُكْمُ للغالب، ولا يعتدُّ بالقليل في الكثير كما لا يعتدُّ بالشعير القليل في البر الكثير، فقد يقال: دار الإسلام، وإِنْ كان فيها غيرُ المسلمين، ودارُ الحرب وإن كان فيها مُسلمون.
الثالث: قال أبو مُسلمٍ: كانوا أُمَّةً واحدة في التمسُّك بالشرائع العقلية، وهي الاعترافُ بوجود الصانع، وصِفاتِهِ، والاشتغالُ بخدمته، وشُكْرِ نعمه، والاجتناب عن القبائح العقليَّة كالظُّلم، والكذب، والجهل، والعبث، وأمثالها.
واحتجَّ القاضي على صِحَّةِ قوله: بِأَنَّ لفظ النَّبيين يفيدُ العُمُومَ والاستغراقَ، وحرف» الفاء «يُفيدُ التَّراخي، فقوله {فَبَعَثَ الله النبيين} يفيد أنَّ بعثةَ الأنبياء كانت مُتأخرة عن كون الناس أُمَّةً واحدة، فتلك الواحدةُ المتقدمةُ على بعثة جميع الشرائع، لا بُدَّ وأَنْ تكون واحدة في شرعة غير مُسْتفَادٍ من الأَنبياء فواجب أن تكون في شريعة مستفادة من العقل وذلك ما بَيَّنَّاهُ، وأيضاً فالعلم بحسن شُكر المُنْعِم، وطاعة الخالق، والإحسان إلى الخَلْقِ، العَدلُ؛ مُشْتَركٌ فيه بين الكُلّ، والعِلْمُ يُقبح الكذب، والظِّلم، والجهْل، والعبث، وأمثالها مشترك فيه بين الكل، فالأظهر أَنَّ الناس كانُوا في أَوَّل الأمر على ذلك، ثم اختلفُوا بعد ذلك؛ لأَسباب منفصلة، ثم قال: فإنْ قيل: أليس أوَّل الإسلام آدَم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مع أولاده كانوا مُجتمعين على التَّمسك بالشرائع العقلية أَوَّلاً، ثم إِنَّ اللَّهَ تعالى بعثهُ بعد ذلك إلى أولاده، ويُحْتَملُ أَنْ صار شرعُهُ مندرِساً، بعد ذلك، ثم رجع الناسُ إلى الشرائعِ العقلية؟
قال ابنُ الخطيب: وهذا القولُ لا يصحُّ إلَاّ بعد تحسين العقل، وتقبيحه، والكلام فيه مشهور.
القول الرابع: أنَّ الآية دلَّت على أَنَّ الناس كانوا أُمَّةً واحدة، وليس فيها أَنَّهم كانوا على الإيمان، أو على الكُفر، فهو موقوفٌ على الدَّليل.
القول الخامس: أَنَّ المراد ب «النَّاسِ» هنا أهْلُ الكتاب مِمَّن آمَنَ بِمُوسَى - عليه السلام - وذلك لأَنَّا بينا أَنَّ هذه الآية متعلقةٌ بما تقدم من قوله:{ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً}[البقرة: ٢٠٨] وذكرنا أَنَّ كثيراً من المفسرين زعمُوا أَنْ تلك