وأنزل مقدِّراً مصاحبته غياهم، وقدَّره أبو البقاء بقوله: «شَاهِداً لَهُمْ وَمُؤيِّداً» ، وهذا تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ.
والألِفٌ واللامُ في «الكِتَابِ» يَجُوزُ أَنْ تكونَ للعهدِ، بمعنى أَنَّه كتابٌ معينٌ؛ كالتوراة مثلاً، فإنها أنزلِت على مُوسى، وعلى النَّبيِّين بعده؛ بمعنى أنَّهَم حَكَموا بها، واستدامُوا على ذلك، وأَنْ تكونَ للجنس، أي: أنزل مع كلِّ واحدٍ منهم من هذا الجنس.
قال القاضي: ظاهرُ الآيةِ يدلُّ على أَنَّه لا نَبيَّ إِلَاّ ومعه كتابٌ، أنزل فيه بيانُ الحق: طال ذلك الكتابُ، أم قصُرَ، ودُوِّنَ، أَو لَمْ يُدَوَّن، وكان ذلك الكتابُ مُعجزاً، أَمْ لم يكن.
وقيل: هو مفردٌ وُضِعَ موضع الجمع: أي وأَنزلَ معهم الكُتُبَ، وهو ضعيفٌ.
وهذا الجُملة معطوفةٌ على قوله: «فَبَعَثَ» ولا يُقالُ: البشارةُ والنِّذارةُ ناشئةٌ عن الإِنزال فكيف قُدِّما عليه؟ لأَنَّا لا نُسَلِّم أنَّهما إنما يَكُونان بإنزال كتابٍ، بل قد يكونان بوحي من اللَّهِ تعالى غير مَتلُوٍّ ولا مكتُوبٍ. ولئن سَلَّمنا ذلك، فإنَّما قُدِّما، لأنهما حالان من «النَّبيِّينَ» فالأَوْلَى اتِّصالهم بهم.
قوله: «بالحقِّ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أن يكون متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الكتاب - أيضاً - عند مَنْ يُجَوِّزُ تعدُّدَ الحال، وهو الصحيحُ.
والثاني: أَنْ يتعلَّق بنفس الكتاب؛ لما فيه من معنى الفعلِ، إذ المرادُ به المكتوبُ.
والثالث: أَنْ يتعلَّقَ بأنزلَ، وهذا أول؛ لأنَّ جعله حالاً لا يَسْتَقِيم إِلَاّ أَنْ يكونَ حالاً مُؤكدةً، إِذْ كُتُبُ اللَّهِ تعالى لا تكون ملتبسةً بالحقِّ، الأصلُ فيها أَنْ تكونَ مْستقلَّةً ولا ضرورة بنا إلى الخروج عن الأصل، ولأنَّ الكتاب جارٍ مَجرى الجوامد.
قوله: «لِيَحْكُمَ» هذا القول متعلقٌ بقوله: «أَنْزَلَ» : واللامُ لِلْعله، وفي الفاعل المضمر في «لِيَحْكُمْ» ثلاثةُ أقوال:
أحدها: وهو أظهرها، أنه يعودُ على اللَّهِ تعالى: لتقدُّمه في قوله: «فَبَعَثَ اللَّهُ» ولأنَّ نسبة الحُكْم إليه حقيقةٌ، ويؤيِّده قراءةُ الجحدري فيما نقله عنه مكّي «لِنَحْكُمَ» بنون العظمة، وفيه التفاتٌ من الغيبة إلى التكلُّم. وقد ظَنَّ ابنُ عطية أن مكياً غلط في نقل