فإن قيل هذه الآية لا تدلُّ على حرمة الخمر لوجوهٍ:
أحدها: أنَّه تعالى أثبت فيها منافع للنَّاس والمحرّم لا يكون فيه منفعةٌ.
الثاني: لو دلَّت الآية على حرمتها، فلم لم يقنعوا بها حتّى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصّلاة؟
الثالث: أنَّه أخبر أنَّ فيها إثمٌ كبيرٌ، فمقتضاه أنَّ ذلك الكبير ملازماً لها ما دامت موجودة، ولو كان ذلك سبباً لحرمتها؛ لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشَّرائع.
فالجواب عن الأوَّل: أنَّ حصول النَّفع فيها ليس مانعاً من حرمتها؛ لأن صدق الخاصّ يوجب صدق العامّ.
وعلى الثاني: أنّا روينا عن ابن عباس أنَّها نزلت في تحريم الخمر والتّوقف الذي ذكروه، غير مرويٍّ عنهم، وقد يجوز بطلب الكبار من الصَّحابة نزول ما هو أكبر من هذه الآية في التَّحريم كما التَمَسَ إبراهيم - صلوات الله عليه - مشاهدة إحياء الموتى، ليزداد سكوناً، وطمأنينة.
وعن الثالث: أنَّ قوله {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} إخبار عن الحال لا عن الماضي فعلم تعالى أنَّ شُرْبَ الخَمْرِ مفسدةٌ لهم، وليس مَفْسَدَةٌ للَّذِينَ من قبلهم.
فصل في بيان الإثم الكبير في الآية
الإثم الكبير في الخمر أمورٌ:
أحدها: أنَّه مزيلٌ للعقل الذي هو أشرف صفات الإنسان، وإذا كان الخمر عَدُوّاً، لا شرفاً؛ فيلزم أن يكون أخسَّ الأمور؛ وذلك لأن العقل إنَّما سمِّي عقلاً أخذاً من عقال النَّاقة، فإنَّ الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح، كان عقله مانعاً من الإقدام عليه، فإذا شرب الخمر بقي طبعه الدَّاعي إلى فعل القبائح خالياً عن العقل له عن فعل القبيح.
ذكر ابن أبي الدنيا: أنَّه مرَّ على سكران، وهو يبول في يده، ويمسح به وجهه كهيئة المتوضِّئ، ويقول: الحمد لله، الذي جعل الإسلام نوراً، والماء طهوراً.
وعن العبَّاس بن مرداس أنَّه قيل له في الجاهليَّة: لم لا تشرب الخمر؛ فإنها تزيد في جراءتك؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي، فأدخله في جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيِّد قوم، وأمسي سفيههم.
وثانيها: ما ذكره الله - تعالى - من إيقاع العداوة، والبغضاء، والصَّدّ عن ذكر الله، وعن الصَّلاة.