رأى من النُّمروذ إِلقاءَ تلك الشُّبهة، عدل إلى دليل آخَرَ أوضح من الأَوَّل، فقال:{فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق، فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} فزعم هؤلاء أن الانتقال مِنْ دليل إلى دليلٍ أوضح منه جائزٌ للمستدلِّ.
فإن قيل: هلَاّ قال النمروذُ فليأتِ بها ربُّك من المغربِ.
قلنا: الجوابُ من وجهين:
أحدهما: أن هذه المُحاجَّة كانت بعد إلقاء إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - في النَّار وخروجه منها سالماً، فعلم أَنَّ من قدر على حفظ إبراهيم في تلك النار العظيمة من الاحتراق، يقدر على أن يأتي بالشَّمس من المغرب.
والثاني: أن الله تعالى خذله وأنساه إيرادَ هذه الشُّبهة؛ نصرةً لنبيِّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
والطريقُ الثاني: قاله المحقِّقون: إن هذا ليس بانتقالٍ من دليل إلى دليلٍ، بل الدليلُ واحدٌ في الموضعين، وهو أنا نرى حدوث الأشياء لا يقدر الخلق على إحداثها، فلا بُدَّ من قادر آخر يتولَّى إحداثها، وهو سبحانه وتعالى، ثم إنَّ قولنا: نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها، أمثلةٌ؛ منها: الإِحياء والإِماتة، ومنها: السحاب، والرعد، والبرق، ومنها: حركات الأفلاك، والكواكب، والمستدلُّ لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليلٍ، ولكن إذا ذكر لإيضاح كلام مثالاً، فله أن ينتقل مِنْ ذلك المثال إلى مثالٍ آخر، فيكون ما فعله إبراهيم - عليه السَّلامُ - من باب ما يكونُ الدليلُ فيه واحداً، إلَاّ أنه يقع الانتقال عند إيضاحه مِنْ مثالٍ إلى مثالٍ آخر، وليس ما يقع [من باب الانتقال من دليل إلى دليل آخر] .
قال ابن الخطيب: وهذا الوجه أحسن من الأوَّل وأليقُ بكلام أهل التحقيق، وعليه إشكالات من وجوه:
الإشكال الأول: أن صاحب الشُّبهة، إذا ذكرها وقعت في الأسماع، وجب على المحقِّ القادر على الجواب أن يجيب في الحال؛ إزالةً لذلك التلبيس والجهل عن العقول، فلما طعن الملك الكافر في الدَّليل الأوَّل أو في المثال الأول بتلك الشبهة، كان الاشتغال بإبطال تلك الشبهة واجباً مضيِّقاً، فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب.
الإشكال الثاني: أن المبطل لمَّا أورد تلك الشُّبهة، فإذا ترك المحق الجواب عنها، وانتقل إلى كلام آخر، أوهم أن كلامه الأوَّل، كان ضعيفاً ساقطاً، وأنه ما كان عالماً بضعفه، وأن ذلك المبطل، علم وجه ضعفه، ونبَّه عليه، وهذا ربما يوجب سقوط شأن المحقِّ، وهو لا يجوز.