وروي عنهم الإسكان أيضاً، واختاره أبو عبيد، وحكاه لغةً للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في [نحو] قوله: «نِعْمَّا المالُ الصالح مع الرجلِ الصالحِ» .
والجمهور على اختيار الاختلاس على الإِسكان، بل بعضهم يجعله من وهم الرواة عن أبي عمرو، وممَّن أنكره المبرد، والزجاج والفارسي، قالوا: لأنَّ فيه جمعاً بين ساكنين على غير حدِّهما. قال المبرد:«لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يَنْطِقَ به، وإنما يَرُومُ الجمعَ بين ساكنين فيحرِّك، ولا يَشْعُر» وقال الفارشي: «لعل أبا عمرو أخفى فظنَّه الراوي سُكُوناً» .
وقد تقدَّم الكلام على «مَا» اللاحقة لنعم، وبئس. و «هي» مبتدأٌ ضميرٌ عائدٌ على الصدقات على حذف مضاف، أي: فنعم إبداؤها، ويجوز ألَاّ يقدَّر مضافٌ، بل يعود الضمير على «الصَّدَقَاتِ» بقصد صفة الإبداء، تقديره: فنعمَّا هي، أي: الصدقات المبداة. وجملة المدح خبرٌ عن «هي» ، والرابط العموم، وهذا أولى الوجوه، وقد تقدَّم تحقيقها.
والضمير في {وَإِن تُخْفُوهَا} يعود على الصدقات. قيل: يعود عليها لفظاً ومعنًى، وقيل: يعود عليها لفظاً لا معنًى؛ لأنَّ المراد بالصدقات المبداة: الواجبة، وبالمخفاة: المتطوَّع بها، فيكون من باب «عِنْدِي دِرْهمٌ، ونصفُه» ، أي: ونصف درهمٍ آخر؛ وكقول القائل:[الوافر]
أي: وريحٌ أخرى ساكنة الهبوب، ولا حاجة إلى هذا في الآية.
والفاء في قوله:«فهو» جواب الشرط، والضمير يعود على المصدر المفهوم من «تُخْفُوهَا» أي: فالإخفاء، كقوله:{اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى}[المائدة: ٨] و «لكم» صفةٌ لخير، فيتعلَّق بمحذوفٍ. و «خَيْر» يجوز أن يكون للتفضيل، فالمفضَّل عليه محذوف، أي: خيرٌ من إبدائها، ويجوز أن يراد به الوصف بالخيريَّة، أي: خيرٌ لكم من الخيور.
وفي قوله:«إِن تُبْدُواْ، وَإِن تُخْفُوهَا» نوعٌ من البديع، وهو الطِّباق اللَّفظيّ. وفي قوله:{وَتُؤْتُوهَا الفقرآء} طباق معنوي؛ لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء، فكأنه قيل: إن يبد الأغنياء الصدقات، وإن يخف الأغنياء الصدقات، ويؤتوها الفقراء، فقابل الإبداء بالإخفاء لفظاً، والأغنياء بالفقراء معنًى.