وقال الفراء قريباً منه، فإنه قال:» نفى الإلحاف عنهم، وهو يريد جميع وجوه السؤال؛ كما تقول في الكلام:«قَلَّ ما رَأَيْتُ مِثْلَ هذا الرجل» ولعلك لم تر قليلاً، ولا كثيراً من أشباهه «.
وجعل أبو بكر الآية الكريمة عند بعضهم من باب حذف المعطوف، وأن التقدير: لَا يَسْأَلُونَ الناسَ إلحافاً، ولا غير إلحاف، كقوله تعالى:{سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر}[النحل: ٨١] ، أي: والبرد.
وقال بعضهم: إنَّ السائل الملحف الملح، هو الذي يستخرج المال بكثرة تَلَطُّفِهِ، فقوله:{لَا يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} أي: لا يسألون الناس بالرِّفق، والتَّلطُّف، وإذا لم يوجد السؤال على هذا الوجه، فبأن لا يوجد على وجه العنف أولى.
وذكر ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيها ثلاثة أوجه أخر:
أحدها: أنه ليس المقصود منق لوه: {لَا يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} وصفهم بأنهم لا يسألون الناس إلحافاً؛ لأنه تعالى وصفهم قبل ذلك بالتعفُّف، وإذا علم أنهم لا يسألون ألبتة، قد علم - أيضاً - أنهم لا يسألون الناس إلحافاً، بل المراد التَّنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافاً، مثاله: إذا حضر عندك رجلان: أحدهما عاقلٌ، وقورٌ ثابتٌ، والآخر طيَّاش مهذارٌ سفيهٌ، فإذا أردت أن تمدح أحدهما، وتعرض بالآخر، قلت: فلانٌ، رجل عاقلٌ وقُورٌ قليل الكلام، لا يخوض في الترّهات، ولا يشرع في السفاهات، ولم يكن غرضك من قولك: لا يخوض في التّرّهات، والسفاهات، وصفه بذلك؛ لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك؛ بل غرضك التنبيه على مذمَّة الثاني؛ فكذا هاهنا قوله:{لَا يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} بعد قوله: {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف} الغرض منه التنبيه على مذمَّة من يسأل الناس إلحافاً.
وثانيها: أنه تعالى بيَّن فيما تقدَّم شدَّة حاجة هؤلاء الفقراء ومن اشتدت حاجته، فإنه لا يمكنه ترك السؤال؛ إلَاّ بإلحاحٍ شديد منه على نفسه، فقوله:{لَا يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً}