ورابعها: أن العبد غير عالم بتفاصيل فعله؛ لأن من حرَّك أصبعه، لم يعرف عدد الأحيان التي حرَّك أصبعه فيها، ولم يخطر بباله أنه حرَّك أصبعه في بعض الأوقات، وسكن في بعضها وأنَّه أين تحرَّك وأين سكن، وإذا لم يكن عالماً بتفاصيل فعله، لم يكن موجداً لها، وإذا لم يكن موجداً، لزم تكليف ما لا يطاق.
فصل في تأويل هذه الآية
اختلفوا في تأويل هذه الآية:
فقال ابن عباس وعطاء وأكثر المفسِّرين: أراد به حديث النَّفس المذكور في قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ}[البقرة: ٢٨٤] .
وروي عن ابن عباس؛ أنه قال: هم المؤمنون خاصَّة، وسَّع الله عليهم أمر دينهم، ولم يكلِّفهم فيه إلَاّ ما يطيقونه؛ كقوله:{يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العسر}[البقرة: ١٨٥] ، وقوله:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ}[الحج: ٧٨] .
قوله:{لَهَا مَا كَسَبَتْ} هذه الجملة لا محلَّ لها؛ لاستئنافها، وهي كالتفسير لما قبلها؛ لأنَّ عدم مؤاخذتها بكسب غيرها، واحتمالها ما حصَّلته هي فقط من جملة عدم تكليفها بما [لا] تسعه، وهل يظهر بين اختلاف لفظي فعل الكسب معنًى، أم لا؟ فقال بعضهم: نعم، وفرَّق بأنَّ الكسب أعمُّ، إذ يقال:«كَسَبَ» لنفسه ولغيره، و «اكْتَسَبَ» أخصُّ؛ إذ لا يقال:«اكْتَسَبَ لِغَيْرِهِ» ؛ وأنشد قول الحطيئة:[البسيط]
وقال الزمخشريُّ:«فإنْ قلت: لم خصَّ الخير بالكسب، والشرَّ بالاكتساب؟ قلت: في الاكتساب اعتمالٌ، ولمَّا كان الشرُّ ممَّا تشتهيه النفس، وهي منجذبةٌ إليه وأمَّارةٌ به، كانت في تحصيله أعمل وآجد، فجعلت لذلك مكتسبةً فيه، ولمَّا لم تكن كذلك في باب الخير، وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال» .
وقال ابن عطيَّة: وكَرَّر فعلَ الكسب، فخَالَفَ بين التصريف حُسناً لنمط الكلام؛ كقوله تعالى:{فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ}[الطارق: ١٧] ، قال شهاب الدين: «والذي يظهر لي في هذا: أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلُّفٍ؛ إذ كاسبها على جادَّة أمر الله تعالى،