فالجواب: أن هذا الكلامَ ونحوه، كقوله:{وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور}[القصص: ٤٦] وقوله: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ}[يوسف: ١٠٢] وقوله: {مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا}[هود: ٤٩]- وإن كان انتفاؤه معلوماً بالضرورة - جار مَجْرَى التهكُّم بمُنْكِري الوحي، يعني أنه إذا عُلِمَ أنك لم تُعَاصِر أولئك، ولم تُدارِس أحداً في العلم، فلم يبق اطلاعك عليه إلا من جهة الوَحْي.
ومعنى الآية: ذلك - الذي ذكرناه - من حديث زكريا ويحيى ومريم - عليهم السلام - من أخبار الغيب نوحيه إليك، وذلك دليلٌ على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه أخبر عن قصصهم - ولم يكن قرأ الكتب - وصدَّقه أهل الكتاب بذلك. ثم قال:{وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي: وما كنت يا محمد بحضرتهم {إِذْ يُلْقُون أَقْلَامَهُمْ} .
أقلام: جمع قَلَم، وهو فَعَل بمعنى مفعول، أي: مَقْلُوم.
والقَلْمُ: القَطْع، ومثله: القبض بمعنى المقبوض، والنقض بمعنى المنقوض، وجمع القلم على أقلام - وهو جمع قِلَّة - وحكى ابنُ سيدَه أنه يُجْمَع على قلام - بوزن رِماح - في الكثرة.
وقيل: سمي القَلَمُ قَلَماً، تشبيهاً بالقُلامةِ - وهو نَبْتٌ ضعيفٌ - وذلك لأنه يُرقق فيَضْعف.
فصل
في المراد بالأقلام - هنا - وجوهٌ:
أحدها: التي يُكْتَب بها، وكان اقتراعهم أن مَنْ جرى قلمُه عكس جَرْي الماء، فالحقُّ معه، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك، فسلموا الأمر له، وهذا قول الأكثرين.
الثاني: قال الربيع: ألْْقَوا عِصِيَّهم في الماء.
الثالث: قال ابو مسلم: هي السهام التي كانت الأمم يفعلونها عند المساهمة، يكتبون عليها أسماءَهُمْ، فمَنْ خرج له السهم سُلِّم إليه الأمر، قال تعالى:{فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين}[الصافات: ١٤١] . وإنما سميت هذه السهامُ أقْلَاماً؛ لأنها تُقْلَم وتُبْرَى، وكلما قَطَعْتَ شيئاً بعد شيء فقد قلمته، ولهذا يُسَمَّى ما يُكْتَب به قَلَماً.