روي أن عيسى - عليه السلام - لما ادَّعَى النبوةَ، وأظهر المعجزات، طالبوه بخَلْق خفاش فأخذ طيناً، فصوَّره، فنفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء والأرض.
قال وَهْبٌ: كان يطير ما دام الناسُ ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميِّتاً، ليتميز فعلُ الخلْق من فعل الخالق.
قيل: خلق الخُفَّاش، لأنه أكمل الطير خَلْقاً، وأبلغ في القدرة؛ لأن لها ثَدْياً وأسْنَاناً وأذناً، وهي تحيض وتطهر وتَلِد.
وقيل: إنما طالبوه بخلق خُفَّاش؛ لأنه أعجب من سائر الخلق، ومن عجائبه أنه لحم ودم، يطير بغير ريش ويلد كما يَلِد الحيوان، ولا يبيض كما يبيض سائر الطُّيور، ويكون له الضرع يخرج منه اللبن، ولا يُبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين: بعد غروب الشمس سَاعةً، وبعد طلوع الفجر سَاعةً - قبل أن يُسْفِر جِدًّا - ويضحك كما يضحك الإنسان، ويحيض كما تحيض المرأة. قال قوم إنه لم يخلق غير الخفاش. وقال آخرون: إنه خلق أنواعاً من الطّيْرِ.
فصل
قال بعض المتكلمين: دلت الآيةُ على أن الروح جسم رقيقٌ، كأنه الريح؛ لأنه وصفها بالنفخ، ثم هاهنا بحث، وهو أنه هل يجوز أن يقال: إنه - تعالى - أودع في نفس عيسى - عليه السلام - خاصية، بحيث إذا نفخ في شيء كانت نفخته فيه موجبة لصيرورة ذلك الشيء حَيًّا؟
ويقال: إن الله - تعالى - كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بصورته، عند نفخ عيسى على سبيل إظهار المعجزات، وهذا الثاني هو الحق؛ لقوله تعالى:{الذي خَلَقَ الموت والحياة}[الملك: ٢] وقال إبراهيمُ عليه السلام لمناظريه: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ}[البقرة: ٢٥٨] فلو حصل لغيره هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال. وقوله:{بِإِذْنِ الله} معناه: بتكوين الله وتخليقه؛ لقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَاّ بِإِذْنِ الله}[البقرة: ١٤٥] أي بأن يُوجَِ اللهُ الموتَ.
فصل
القرآن دل على أنه - عليه السلام - إنما تولد من نفخ جبريل - عليه السلام - في مريم وجبريل روح محض وروحاني محض، فكانت نفخة عيسى عليه السلام سبباً للحياة والروح.