للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:
مسار الصفحة الحالية:

متحيّزاً ولا عرضاً - وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشريِّ الجسمانيِّ الذي وُجِدَ بعد أنْ كانَ معدوماً، وقُتِلَ - على قولِكُمْ - بعد أن كان حياً، وكان طفلاً - أولاً - ثم صار مُترعرعاً، ثم صار شاباً، ويشربُ ويُحْدِثُ وينامُ ويستيقظ وقد تقرَّرَ في بداهةِ العقولِ أن المحدث لا يكونُ قديماً والمحتاج لا يكون غَنِيًّا، والممكن لا يكون واجباً والمتغير لا يكون دائماً.

الثاني: أنكم تعترفون أنَّ اليهودَ قتلوه وأخذوه، وصلبوه، وتركوه حيًّا على الخشبة، وقد مزَّقوا ضِلْعه، وانه كان يحتال في الهَرَبِ منهم، وفي الاختفاء عنهم، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزَعَ الشديدَ. فإن ك ان إلهاً، وكان الإله حالاًّ فيه، أو كان جُزءٌ من إله حالاًّ فيه، فلِمَ لَمْ يدفَعْهم عن نفسه؟ ولم لم يهلكهم بالكلية؟ وأيُّ حاجةٍ إلى إظهار الجَزَع منهم، والاحتيال في الفرار منهم؟ وبالله إني لأتعجَّب جداً من أن العاقلَ كيف يليق به أن يقولَ هذا القولَ، ويعتقد صحته، وبداهة العقل تكاد أن تشهد بفساده؟

الثالث: أن يقال: إن الإله إمَّا أن يكونَ هذا الشخصُ الجسمانيُّ المُشَاهَدُ، أو يقال: إن الإله بكليته فيه، أو حل بعضُ الإله فيه. والأقسام الثلاثة باطلة: أما الأول فإن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم، فحين قتله اليهودُ كان ذلك قولاً بأن اليهودَ قتلوا إله العالَم، فكيف بَقِيَ العالَم بعد ذلك من غير إلهٍ؟ ثم إن أشَدَّ الناس ذُلاًّ ودَنَاءَةً اليهودُ، فالإله الذي تقتله اليهودُ إلهٌ في غاية العجز. وأما الثاني: - وهو أن الإله بكليته حَلَّ في هذا الجسم - فهو أيضاً - فاسد؛ لأن الإله إن لم يكن جسماً ولا عَرَضاً امتنع حُلولُه في الجسم، وإن كان جسماً فحينئذ يكون حلوله في جسم آخرَ، عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء ذلك الجسم، وذلك يوجب وقوع التفرُّق في أجزاء ذلك الإله، وإن كان عرضاً كان محتاجاً إلى المحلّ، وحينئذ يكون الإله محتاجاً إلى غيره، وكل ذلك سخفٌ.

وأما الثالثة: وهو أنهُ حَلَّ فيه بعضٌ من أبعاض الإله وجزء من أجزائه، وذلك - أيضاً - محالٌ؛ لأن ذلك الجزء إن كان معتبراً في الإلهية فعند انفصاله عن الإله، وجب أن لا يبقى الإله إلهاً. وإن كان معتبراً في تحقق الإلهية لم يكن جُزْءاً من إله فثبت فسادُ هذه الأقسام.

الوجه الرابعُ - في بطلان قول النصارى - ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله - تعالى - ولو كان إلهاً لاستحال ذلك؛ لأن الإله لا يَعْبُدُ نفسه، ثم قلت للنصراني: ما الذي دَلّكَ على كونِهِ إلهاً؟ فقال دلَّ عليه ظهورُ العجائبِ عليه من إحياء الموتى وإبْراءِ الأكمهِ والأبرصِ وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرةِ الإله - تعالى - فقلتُ لَهُ: تسلم أنَّه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، أم لا؟ فإنْ لَمْ تُسَلِّمْ لزمك مِنْ نفي العالمِ في الأزلِ نفي الصانع وإن سَلَّمْتَ أنَّهُ لا يلزمُ من عدم الدليل عدم المدلول فأقول: لَمَّا جوَّزْتَ حُلُولَ الإلَهِ في بَدَنِ عيسى عليه السلام فكيف عَرَفْتَ أنَّ

<<  <  ج: ص:  >  >>