وروى الضحاكُ عن ابن عباسٍ أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعاً، وذلك أنهم حرَّفوا التوراة والإنجيلَ، وألحقوا بكتاب الله ما ليس منه.
فإن قيل: كيف يمكن إدخالُ التحريف في التوراة، مع شُهْرتها العظيمة؟
فالجوابُ: لعله صدر هذا العمل عن نفر قليلٍ، يجوز تواطؤهم على التحريف، ثم إنهم عرضوا ذلك المحرَّف على بعض العوامِّ، وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكناً.
قال ابن الخطيب:«والأصوب - عندي - في الآية أن الآياتِ الدَّالَّةِ على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يُحتاج فيها إلى تدقيق النظرِ والتأمُّل، والقوم كانوا يُورِدون عليها الأسئلة المشوشة، والاعتراضات المظلمة، فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهةً على السَّامِعِينَ، واليهود كانو يقولون: مراد اللهِ من هذه الآياتِ ما ذكرناهُ - لا ما ذكرتم - فكان هذا هو المراد بالتحريف وَلَيِّ الألسنةِ، كما أن المُحِقَّ - في زمننا - إذا استدل بآيةٍ فالمُبْطِل يورد عليه الأسئلةَ والشبهاتِ، ويقول: لَيْسَ مُرَادُ اللهِ - تعالى - ما ذكرت، بل ما ذكرناه، فكذا هنا، والله أعلمُ» .
فإن قيل: ما الفرق بين قوله: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} وبين قوله: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} ؟
فالجوابُ: أن المغايرة حاصلة؛ لأنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله تعالى؛ فإن الحكم الشرعيَّ قد ثبت تارةً بالكتاب، وتارةً بالسنَّةِ، وتارة بالإجماع، وثارةً بالقياس، والكل من عند الله تعالى - فقوله:{لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} هذا نفيٌ خاصٌّ، ثم عطف النفي العام فقال:{وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} فلا يكون تكراراً.
وأيضاً يجوز أن يكون المراد من الكتاب التوراة، ويكون المراد من قولهم:{هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ} أنه موجود في كتاب سائر الأنبياء عليهم السلام مثل شعيب وأرميا؛ وذلك لأن القومَ في نسبة ذلك التحريفِ إلى الله تعالى كانوا متحيرين فإن وجدوا قوماً من الأغمار والبُلْه الجاهلين بالتوراة نسبوا ذلك المحرَّف إلى أنه من عنده، وإن من وجدوا قوماً عُقَلَاء أذكياء زعموا أنه موجودٌ في كتب سائر الأنبياءِ، الذين جاءوا بعد موسى عليه السَّلَامُ.