الحال. وبتقدير أن يكونوا أحياءً في الحال، فإما أن يكون المرادُ الحياةَ الروحانيةَ، أو الجسمانيةَ، فأما الاحتمال الأولُ - وهو أنهم سيصيرون أحياء في الآخرة - فقد ذهب إليه جماعةٌ من المعتزلةِ، منهم الكَعْبِيِّ، قال: لأن الله - تعالى - أورده هذه الآية تكذيباً للمنافقين في جَحْدِهِم البعثَ والمعادَ، وقولهم: إن أصحاب مُحَمَّدٍ يُعَرِّضون أنفسهم للتقل، فَيُقْتَلون، ويخسرون الحياة، ولا يصلونَ إلى خيرٍ.
وهذه الاية تردُّ هذا القول؛ لأن ظاهرَها يدل على كونهم أحياءً حال نزول هذه الآية، وأيضاً فإنه تعالى قال:{أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً}[نوح: ٢٥] والفاء للتعقيب، والتعذيب مشروط بالحياة. وقال:{النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً}[غافر: ٤٦] وإذا جعل الله أهل العذاب أحياءً - قبل القيامة - لأجل الثواب أولى؛ لأن جانب الإحسان والرحمةِ أرجح من جانب العذاب، وأيضاً لو كان المراد أنه سيجعلهم أحياءً في القيامة لمَا قال للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَلَا تَحْسَبَنَّ} مع علمه بأن جميع المؤمنين كذلك.
فإن قيل: إنه صلى الله عله وسلم كان عالماً بأنهم سيصيرون أحياءً عند البعثِ، لكنه غير عالم أنهم من أهلِ الجَنَّةِ، فجاز أن ييشِّره الله - تعالى - بانهم سيصيرون أحياءً، ويصلون إلى الثواب؟
فالجوابُ: أن قوله: {وَلَا تَحْسَبَنَّ} وإنما يتناول الموتَ؛ لأنه قال:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً} فالذي يُزيل هذا الحسبان هو كونُهم أحياءً في الحال؛ لأنه لا حسبان - هناك - في صيرورتهم أحياء يوم القيامة.
وقوله:{يُرْزَقُونَ} خبر مبتدأ، ولا تعلُّق له بذلك الحسبان، فزال السؤالُ، وأيضاً فقوله تعالى:{وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ} فالقوم الذينَ لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدُّنْيا، واستبشارهم بمن يكون في الدنيا ولا بد وأن يكون قبل القيامة، والاستبشار لا يكون إلا مع الحياةِ، فدل على كونهم أحياءً قبل يوم القيامة.
وأيضاً روى ابن عباسٍ أن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال - في صفة الشهداء:«أَرْوَاحُهُمْ في أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنهارَ الجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَسْرَحُ حيثُ شاءتْ، وتأوي إلى قَنَاديلَ تحت العَرْشِ؛ فلمت رأوا طِيبَ مَسْكَنِهِمْ ومَطْعَمِهِمْ ومَشْرَبِهِمْ قَالُوا: يَا لَيْتَ قومَنَا يَعْلَمُونَ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيم، كَيْ يَرْغَبُوا فِي الجِهَادِ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى أَنَا مُخْبِرٌ عَنْكُمْ، وَمُبَلِّغٌ إخْوَانِكُم، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ وَاسْتَبْشَرُوا» ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هذه الآية.