وخُتِمَتْ كل وحدة من هذه الآيات الثلاث بصفة للعذاب غير ما خُتِمَتْ به الأخْرَى؛ لمعنًى مناسب، وهو أن الأولى تضمنت الإخبار عنهم بالمسارعة في الكُفْرِ، والمسارعةُ في الشيء والمبادرة في تحصيله تقتضي جلالته وعظمته، فجُعِل جزاؤه {عَذَابٌ عَظِيمٌ} مقابلاً لهم، ويدل ذلك على خساسة ما سارعوا فيه. وأما الثانية فتضمنت اشتراءهم الكُفْر بالإيمان، والعادة سرورُ المشتري واغتباطه بما اشتراه، فإذا خسر تألَّم، فخُتِمَت هذه الآية بألم العذابِ، كما يجد المشتري المغبون ألَمَ خسارته.
وأما الثالثة فتضمنت الإملاء - وهو الإمتاع بالمال وزينة الدنيا - وذلك يقتضي التعزُّزَ والتكبُّرَ والجبروتَ فختمت هذه الآيةُ بما يقتضي إهانتهم وذِلَّتهم بعد عِزِّهم وتكبُّرهم.
فصل
قال ابنُ الخطيبِ: احتج أصحابُنا - بهذه الآية - في إثبات القضاء والقدر؛ لأن الإملاء عبارة عن تأخيره مدة - والتأخيرُ من فعلِ اللهِ تعالى - والآية دلَّت على أنَّ هذا الإملاء ليس بخير لهم، فهو سبحانَهُ خالقُ الخيرِ والشرِ.
ودلَّت على أن المقصودَ من هذا الإملاء هو أن يزدادوا إثماً، فدل على أن المعاصيَ والكُفْر بإرادته وأكَّد بقوله:{وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} .
وأيضاً أخبر عنهم بأنهم لا خير لهم في هذا الإملاء؛ لأنهم لا يحصلون إلا زيادة البغي والطغيان، والإتيان بخلاف خبر لله - مع بقاء ذلك الخبر - جمع بين النقيضين، وهو محالٌ. وإذا لم يكونوا قادرين - مع ذلك الإملاء - على الخير والطاعة - مع أنهم مكلَّفُون بذلك - لزم في نفسه بُطْلان مذهب المعتزلة.
وأجب المعتزلة عن الأول بأنّ المرادَ: ليس خيراً لهم بأن يموتوا كما مات الشهداءُ يومَ أُحُدٍ؛ لأن هذه الآيات في شأن أُحُدٍ، ولا يلزمُ من كَوْنه ليس خيراً من القتل يوم أحد إلا أن يكونَ في نفسه خيراً.
وعن الثاني بأنه ليس المرادُ ليقدموا على الكفرِ والعصيانِ؛ لقوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات: ٥٦] فيُحْتَمَلُ أن تكونَ اللامُ للعاقبة - كقوله:{لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً}[القصص: ٨]- أو يكون فيه تقديم وتأخير، تقديره: لا يحسبن الذين كفروا أنما نُملي لهم ليزدادوا إثماً، إنما نُمْلي لهم خير لأنفسهم. أو لأنهم لما ازدادوا طغياناً - بإمهاله - أشبه حال مَنْ فعل أهلِ السُّنَّةِ فلأنهم يُحيلون تعليل أفعاله تَعَالَى بالأغراض، وأما على قولنا فلأنَّا إنما نُعَلِّلُ بغرض الإحسانِ، لا بالتعب فسقط ما ذكروه.