قال القُرِطُبِيُّ: والصحيح أنَّهُ لا نَسْخَ، لأنَّ النَّسْخَ فِي الأخْبَارِ مُسْتَحِيلٌ، وسيأتي الجمعُ بَيْنَ الآي، في هذه السُّورةِ؛ وَفِي الفُرْقَانِ، إنْ شَاءَ اللهُ تعالى.
فصل هل يسمى اليهودي مشركاً في الشرع؟
قال ابنُ الخطيب: دلتْ هذه الآيةُ على أنَّ اليَهُودِيِّ يُسَمَّى مُشْرِكاً في الشَّرْعِ؛ لأنها دالَّةٌ على أنَّ مَا سِوَى الشركِ من الكَبَائِرِ يُغْفَرُ، فَلَوْ كَانَتِ اليهوديَّةُ مُغَايِرة للشِّرْكِ، كَانَتْ] مَغْفُورَةً بحكم الآية، وهو خِلَافُ الإجْمَاعِ، ولأنَّ هذه الآيةَ مُتَّصِلَةٌ بوعِيِدِ اليَهُودِ، فَلَوْلَا دُخُوُل اليهوديةِ تحتَ اسْمِ الشِّرْكِ، لم يحْصُل الالتئامُ.
فإنْ قيلَ: عَطْفُ» الذين أشركوا «على» الذين هادوا «في قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ}
[الحج: ١٧] ثُمَّ قَالَ [بعده] : «والذين أشركوا» يَقْتَضِي المُغَايَرَةَ.
قُلْنَا: المغايرةُ في المفهومِ اللُّغَويِّ، والاتِّحاد في الشرعي؛ دَفْعَاً للتَّنَاقُضِ، ويتفرَّعُ عليه أنَّ المسلمَ لا يُقْتَلُ بالذِّمي؛ لأنَّ المشركَ مُبَاحُ الدَّكِ؛ لقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: ٥] ، ومُبَاحُ الدَّمِ لا يُقْتَصُّ مِنْ قَاتِلِهِ، ولا يتوجَّهُ النَّهْيُ عن قَتْلِه، ترك العَمَلِ بهذا الدليلِ في حقِّ النهي فَبَقِيَ مَعْمُولاً به في سُقُوطِ القِصَاصِ عَنْ قَاتله.
فصل في دلالة الآية على العفو عن أصحاب الكبائر
هذه الآيةُ أقْوَى الدلائلِ على صِحَّة العَفْوِ عن أصْحَابِ الكَبَائِرِ، من وجوه:
الأوَّلُ: أنَّ قوله تعالى: {إِنَّ الله لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} أيْ لا يغفرُهُ فَضْلاً معَ عدمِ التوبةِ؛ لأنَّهُ يُغْفَرُ وُجُوباً عند التوبةِ بالإجماع؛ فيكون قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} على سَبِيلِ الفَضْلِ، حَتَّى يتواردَ النَّفْيُ والإثباتُ على مَعْنَى واحدٍ؛ كما لو قال: إنَّ فُلاناً شَاءَ لا يُعْطِي على سبيلِ فَضْلِ الوُجُوبِ، كان رَكِيكاً، وحينئذٍ: يَجِبُ أنْ يكُونَ المرادُ أصْحابَ الكَبَائِرِ، قَبْلَ التَّوْبَةِ؛ لأنَّ عند المعتزِلَةِ، غُفْرَانَ الصَّغائِرِ، والكبائِرِ بَعْدَ التَّوْبَةِ - وَاجِبٌ عَقْلاً، فلا يُمْكن حَمْلُ الآيةِ عَلَيْهِ، فلم يَبْقَ إلَاّ الكَبَائِرُ قَبْلَ التَّوْبَةِ.
الثّاني: أنَّ ما سِوَى الشِّرْكِ، يَدْخُلُ فيه الكبائرُ قَبْلَ التوبةِ، وبعدَهَا، ثُمَّ حَكَمَ على الشِّرْكِ بأنَّهُ غيرُ مَغْفُورٍ، وَعَلَى غَيْرِ الشِّرْكِ بأنَّهُ مَغْفورٌ لمنْ يشاءُ، فَوَجَبَ أنْ تكونَ الكبيرةُ قَبْلَ التوبةِ مَغْفُورةٌ.
الثالثُ: أنَّه علَّقَ الغُفْرَان بالمشيئَةِ، وغُفْرَانُ الكَبِيرةِ بعد التوبةِ والصَّغِيرَةِ مَقْطُوعٌ به، فوجب أنْ يكونَ المعلَّق الكبيرة قبلَ التوبةِ.