وصاحبُ الحَالِ هو الكِتَابُ، أي: أنزلنا مُلْتسباً بالحَقِّ، و «لتحكمْ» : متعلِّق ب «أنْزلنا» ، و «أراك» متعدٍّ لاثنين: أحدهما: العائدُ المَحْذُوفُ، والثاني: كافُ الخطَابِ، أي: بما أراكَهُ الله. والإراءةُ هنا: يجوزُ أن تَكُون من الرَّأي؛ كقولك:«رأيتُ رَأيَ الشَّافِعِي» ، أو من المَعْرِفة، وعلى كلا التَّقْدِرين؛ فالفعلُ قبل النَّقْل بالهَمْزة متعدٍّ لواحد، وبعدَه مُتَعَدٍّ لاثنين] .
وقال أبو عَلِيٍّ الفَارِسِي:[قوله]«أرَاكَ اللَّهُ» إمّا أن يَكُون مَنْقُولاً بالهَمْزَة من «رَأيْت» ، الَّتِي يُرَاد بها رُؤْيَةُ البَصَر، أو من «رَأيْت»[الَّتِي] تتعدَّى إلى مَفْعُولَيْن، أو من «رأيْتُ» الَّتِي يُرَاد بها الاعْتِقَاد.
والأوَّل: بَاطِلٌ؛ لأنَّ الحُكْمَ في الحَادِثَةِ لا يُرَى بالبَصَر.
والثاني: أيضاً بَاطِلٌ؛ لأنَّه يَلْزَم أن يَتَعَدَّى إلى ثَلَاثَة مَفَاعِيل بسبب التعدية ومعلوم: أنَّ هذا اللَّفْظ لم يَتَعَدَّ إلَاّ إلى مَفْعُولين: أحدُهُما: كاف الخِطَابِ، والآخر المَفْعُول المقدَّر، وتقديره: بما أرَاكَهُ الله، ولمَّا بَطَل القِسْمَان، بقي الثَّالِث، وهو أنَّ المُرَاد مِنْه:«رأيت» بمعنى: الاعْتِقَاد.
فصل في معنى الآية
معنى الآيَةِ: بما أعْلَمَكَ اللَّه، وسُمِّي ذلك العِلْم بالرُّؤيَة؛ لأن العِلْم اليَقِينيِّ المُبَرَّأ عن الرَّيْب يكون جَارِياً مُجْرَى الرُّؤية في القُوَّة والظُّهُور، وكان عُمَر يقُول: لا يَقُولَنَّ أحدُكُم قَضيتُ بما أرَانِي [اللَّه] ، فإن اللَّه - تعالى - لم يَجْعَلْ ذلك إلا لِنَبِيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأما الوَاحِد منَّا فرأيُهُ يَكُون ظَنّاً، ولا يكون عِلْماً.
وإذا ثَبَت ذَلِكَ قال المحققون: دَلَّت هذه الآيَةِ على أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما كان يَحْكُم إلا بِالوَحْي والنَّصِّ، وإذا كان كَذَلِك، فيتفَرَّعُ عليه مَسْألتانِ:
الأولَى: أن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يَجُز لَهُ الاجْتِهَاد.
والثانية: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إذا لم يَجُز له أنْ يحكم إلا بالنَّصِّ، وجَبَ أن تكُونَ أمَّتُهُ كَذَلِكَ؛ لقوله - تعالى - {واتبعوه}[الأعراف: ١٥٨] وإذا كان كَذَلِك، حَرُمَ العَمَلُ بالقِيَاس.
والجَوَابُ: أنه لما قَامَت الدَّلَالَة على أنَّ القِيَاس حُجَّة، كان العَمل بالقِيَاسِ عَمَلاً