اسْتِعَانَة بطبيعة؛ بل كانت دَعْوَتُه إلى اللَّه - تعالى - كما قال:{إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ}[الأنعام: ٧٨] ودعوة مُحَّمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كانت قَرِيبَة من شَرْع إبْرَاهيم - عليه السلام - في الخِتَان، وفي الأعْمَال المُتَعَلِّقَة بالكَعْبَة؛ كالصَّلاة إليها، والطَّوَاف [والسَّعْي] والرَّمْي، والوُقُوف، والحَلْق، والكَلِمَات العَشْر المَذْكُورة في قوله:{وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ}[البقرة: ١٢٤] .
وإذا ثبت أنَّ شَرْع مُحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان قَريباً من شَرْع إبراهيم [ثم إنَّ شَرْع إبْرَاهِيم] مقبولٌ عند الكُلِّ لأن العَرَب لا يَفْتَخرُون بشيءٍ كافتخارهم بالانْتِساب إلى إبْرَاهيم -[عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ]-، وأما اليَهُود والنَّصارى فلا شَكَّ في كَوْنِهِم مُفْتَخِرين بِهِ، وإذا ثَبَت هذا، لَزِم أن يكون شَرْع مُحمَّد -[صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ]- مَقْبُولاً عند الكُلِّ.
قوله:{مِمَّنْ أَسْلَمَ} : متعلِّقٌ ب «أحْسَنُ» فهي «مِنْ» الجَارَّة للمَفْضُول، و «لله» متعلِّقٌ ب «أسْلَم» ، وأجَازَ أبُو البقاء أن يَتَعَلَّق بَمَحْذُوف على أنَّه حَالٌ من «وَجْهه» وفيه نظرٌ لا يَخْفَى، «وهو مُحْسِنٌ» ، حالٌ من فَاعِل «أسْلَم» .
ومعنى {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} : أخْلَصَ عمله للَّه، وقيل: فَوض أمْرَه إلى اللَّه، «وهو مُحْسِن» أي: مُوَحِّد. و «اتَّبع» يجُوز أن يكون عَطْفاً على «أسْلَمَ» وهو الظَّاهِر، وأن يكونَ حالاً ثانية من فَاعِل «أسْلَم» بإضمار «قَدْ» عند مَنْ يشترط ذَلِك، وقد تقدَّم الكَلَام على «حَنيفاً» في البَقَرة، إلا أنَّه يَجُوزُ هنا أن يكُون حالاً من فَاعِل «اتبع» .
فصل
«ملَّة إبْرَاهِيم» دين إبراهيم، «حَنِيفاً» أي: مسلِماً مُخْلِصاً.
فإن قيل ظَاهِر هذه الآيَة يَقْتَضِي أنَّ شرع مُحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - نفس شَرْع إبْرَاهيمَ، وعلى هَذَا لم يَكُن لمحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - شريعة مُسْتقِلَّة، وأنتم لا تَقُولُون بِذلِك.
فالجوابُ: أن شَريعَة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تُشْبِه أكثر شَرِيعَة إبْرَاهِيمَ.
قال ابن عبَّاسٍ: ومن دينِ إبراهيم: الصَّلاة إلى الكَعْبَة، والطَّواف بها، ومَنَاسِك الحَجِّ، وإنما خصَّ بها إبْراهيم -[عليه والصلاة والسلام]-؛ لأنه كان مَقْبُولاً عند جَمِيع الأمَمِ، وقيل: إنَّه بُعِثَ على مِلَّة إبْرَاهِيم، وزِيدَت له أشْيَاء.