والثاني - وبه قال ابن قتيبة والفراء -: أنه يعودُ على العلم، أي: ما قتلوا العلم يقيناً، على حدِّ قولهم: «قَتَلْتُ العِلْمَ والرأي يقييناً» و «قَتَلتهُ عِلْماً» ، ووجْه المجاز فيه: أن القتلَ للشيء يكون عن قَهْرٍ واستعلاءٍ؛ فكأنه قيل: وما كان علْمُهُم علْماً أُحيطَ به، إنما كان عن ظن وتخمين.
الثالث - وبه قال ابن عباس والسُّدِّيُّ وطائفة كبيرة -: أنه يعود للظنِّ تقول: «قَتَلْتُ هَذَا عِلْماً وَيَقِيناً» ، أي: تحقَّقت، فكأنه قيل: وما صَحَّ ظنُّهم عندهم وما تحقَّقوه يقيناً، ولا قطعوا الظنَّ باليقين.
قوله: «يَقيناً» فيه خمسة أوجه:
أحدها: أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أي: قتلاً يقيناً.
الثاني: أنه مصدر من معنى العامل قبله؛ كما تقدم مجازه؛ لأنه في معناه، أي: وما تيقَّنوه يقيناً.
الثالث: أنه حال من فاعل «قَتَلُوهُ» ، أي: وما قتلوه متيقنين لقتله.
الرابع: أنه منصوبٌ بفعلٍ من لفظه حُذِفَ للدلالة عليه، أي: ما تيقَّنوه يقيناً، ويكون مؤكِّداً لمضمون الجملةِ المنفيَّة قبله، وقدَّر أبو البقاء العامل على هذا الوجه مثبتاً، فقال: «تقديره: تيقَّنوا ذلك يَقِيناً» ، وفيه نظر.
الخامس - ويُنْقَل عن أبي بَكْر بن الأنباريِّ -: أنه منصوبٌ بما بعد «بَلْ» من قوله: «رَفَعَهُ الله» ، وأن في الكلام تقديماً وتأخيراً، أي: بَلْ رفعه الله إليه يقيناً، وهذا قد نَصَّ الخليلُ، فمَنْ دونه على منعه، أي: أن «بَلْ» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها؛ فينبغي ألا يَصِحَّ عنه، وقوله: {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} رَدٌّ لما ادَّعَوْهُ مِنْ قتله وصلبه، والضمير في «إلَيْه» عائدٌ على «الله» على حَذْفِ مضاف، أي: إلى أسمائه ومحلِّ أمره ونهيه.
فصل: إثبات المشبهة للجهة ودفع ذلك
احتَجَّ المُشَبِّهَةُ بقوله - تعالى -: {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} في إثْبَات الجِهَةِ.
والجوابُ: أن المُراد الرَّفْعُ إلى موضعٍ لا يَجْرِي فِيهِ حُكْمُ غير الله - تعالى -؛ كقوله تعالى {وإلى الله تُرْجَعُ الأمور} [آل عمران: ١٠٩] وقوله - تعالى -: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ} [النساء: ١٠٠] ، وكانت الهِجْرَة في ذلك الوَقْت، إلى المَدِينَةِ.
وقال إبراهيمُ: {إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: ٩٩] .
فصل: دلالة الآية على رفع عيسى عليه السلام
دلت [هذه] الآيةُ على رفع عيسى - عليه السلام - إلى السَّمَاءِ، وكذلك قوله: