قال الفرَّاء: لا أسْمَع فعَّالاً من أفعل إلَاّ في حَرْفَيْن وهما: جَبَّارٌ من أجْبَر، ودَرّاك من أدْرَكَ.
وقيل: مأخوذٌ من قَولِهِم: نَخْلةٌ جَبَّارَةٌ، إذا كانت طَويلَةً مُرْتَفِعَةً لا تَصِلُ الأيْدِي إلَيْها، ويُقَال: رَجُلٌ جَبَّارٌ، إذا كان طَوِيلاً عَظِيماً قويّاً تَشْبِيهاً بالجبَّار مِن النَّخْلِ، والقَوْمُ كانوا في غَايَةِ القُوَّة وعِظَمِ الإجْسَامِ، بِحَيْثُ ما كَانَتْ أيْدِي قوم مُوسَى تَصِلُ إليهم، فَسَموهم جَبَّارِين لِهذَا المَعْنى.
فصل
قال المُفَسِّرُون: لما خَرَجَ مُوسَى من مِصْر، وعدَهُم الله - تعالى - إسكان أرْضِ الشَّام، وكان بَنُوا إسرائِيل يُسَمُّون أرْضَ الشَّام أرْضَ المَوَاعِيد، ثم بَعَثَ مُوسى - عليه السلام - اثْنَي عَشَر نَقِيباً من الأنبياء، يَتَجسَّسُون لَهُمْ أحْوَال تلك الأرَاضي.
فلمَّا دَخَلُوا تلك الأمَاكِن رَأوْا أجْساماً عَظِيمَة، قال المُفَسِّرُون: فأخذَهُم أحَدُ أولئك الجبَّارِين، وجَعَلَهُم في كُمّهِ مع فَاكِهَةٍ كان قد حَمَلَها من بُسْتَانِه، وأتى بهم المَلِك فَنَثَرَهُم بين يديه، وقال مُتَعجباً للملك: هؤلاء يُرِيدُون قِتالَنا، فقال المَلِكُ: ارْجِعُوا إلى صاحِبِكُم، وأخْبِرُوه بما شَاهَدْتُم.
قال ابْنُ كَثِير: وهذه هذياناتٌ من وضْعِ جُهَّالِ بني إسائيل، ولو كان هذا صَحِيحاً لكَان بَنُوا إسرائيل معذُورين في امْتِنَاعِهِم عن القتال، وقد ذَمَّهُمُ اللَّهُ تعالى على مُخَالَفَتِهِم وتَرْكِ جِهَادِهِم، وعَاقَبَهُم بالتِّيهِ، ثمَّ انْصَرَف أولَئِكَ النُّقَبَاءُ إلى مُوسَى وأخْبَرُوه بالوَاقِعَة، وأمَرَهُم أنْ يَكْتُمُوا ما شَاهَدُوهُ، فلم يَقْبَلُوا قوله إلا رَجُلان مِنْهُم، وهم: يُوشَعُ ابن نُون، وكَالِب بن يُوقنا فإنهما سَهَّلا الأمْر، وقالا: هي بلادٌ طَيِّبَةٌ كثيرة النعم والأقوام، وإن كانت أجْسَامُهُم عَظِيمَة، إلَاّ أنَّ قلوبَهُم ضَعِيفَةٌ.
وأما العَشْرُة البَاقِية فإنَّهم أوْقَعُوا الجُبْن في قُلُوب النَّاسِ حتَّى أظْهَرُوا الامْتِنَاع من غَزْوِهِم، وقالُوا لِمُوسَى:{إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا، فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلاا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ، فدَعا عَلَيْهم مُوسَى، فعاقَبَهُم الله تعالى بأن أبْقَاهُم في التِّيهِ أرْبَعِين سنة.