ذلك قالت اليَهُود:{يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} أي: مَقْبُوضَةٌ من العَطَاءِ على جِهَةِ الصِّفَةِ بالبُخْلِ، والجاهلُ إذا وقع في البلاءِ والشِّدَّة والمِحْنَة يقول مثل هَذِه الألْفَاظ.
الرابع: لعلَّه كان فيهم مِمَّن كان على مَذْهَبِ الفَلْسَفَة، وهو أنَّهُ مُوجِبٌ لذاتِه، وأنَّ حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نَهْجٍ واحدٍ وهو أنَّهُ تعالى غير قادر على إحْداثِ الحوادِثِ على غير الوُجُوه الَّتِي عليها تقع، فَعَبَّرُوا عن عَدَمِ الاقْتِدَار على التَّغْيِير والتبْدِيل بغلِّ اليَد.
الخامس: قال بعضهم: المراد منه - هو قَوْلَ اليَهُود أنَّ اللَّه تعالى لا يعذِّبُنَا إلا قدْرَ الأيَّامِ التي عَبدْنَا فيها العِجْلَ - إلَاّ أنهم عبَّروا على كونه تعالى غير مُعَذِّبٍ لهم إلَاّ هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة، واسَتْوجَبُوا اللَّعن بِسَبَبِ فساد العِبَادَة، وعدم رِعَايَة الأدَب، وهذا قول الحسن.
قال البغوي بعد أن حَكَى قولَ المُفَسِّرين، ثم بعده قول الحَسَن: والأوَّلُ أوْلَى لمعنى قول المفسرين لِقَوْله تعالى بَعْدَ ذلك: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} .
وقوله:{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ} يحتمل الخبرَ المَحْضَ، ويحتمل أن يُرادَ به الدعَاءُ عليهم أي: أمْسَكَتْ أيْديهم عن الخَيْرَات، والمعنى: أنَّه - تعالى - يُعَلِّمُنَا الدُّعَاءَ عليهم، كما عَلَّمَنَا الدُّعَاءَ على المُنافقين في قوله تعالى:{فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً}[البقرة: ١٠] فإن قيل: كان يَنْبَغي أن يُقَال: «فَغُلَّتْ أيديهم» .
فالجَوَاب: أنَّ حَرْفَ العَطْف وإنْ كان مُضْمَراً إلا أنَّهُ حُذِفَ لفائدة، وهي أنَّه لما حُذِفَ كان قوله «غُلَّتْ أيْدِيهم» كالكلام المبتدأ به ففيه [زيادة] قُوَّة؛ لأنَّ الابْتِدَاء بالشَّيْء يَدلُّ على شِدَّةِ الاهْتِمَام به وقُوَّة الاعْتِنَاء، ونَظِيرُه في الحَذْفِ والتَّعْقِيب قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً}[البقرة: ٦٧] ولَمْ يَقُل: فقالوا أتَتَّخِذنَا.
وقيل: هو من الغلِّ يوم القِيَامَةِ في النَّار كقوله تعالى: {إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل}[غافر: ٧١] .
«ولُعِنُوا» عُذِّبوا «بما قالوا» فَمِنْ لَعْنِهم - أنَّهُ مَسَخَهُمْ قردة وخَنَازِير، وضُرِبَت عليهمُ الذِّلَّة والمَسْكَنَة في الدُّنْيا، وفي الآخِرَة بالنَّار.