فالظاهرُ أنها المخفَّفة، وشَذَّ عدمُ الفصْلِ، ويحتملُ أن تكون الناصبة شذَّ وقوعُها بعد العلْمِ، وشذَّ إهمالُها، ففي الأوَّلِ شذوذٌ واحدٌ، وهو عدم الفصلِ، وفي الثاني شذوذَانِ: وقوعُ الناصبةِ بعد العلمِ، وإهمالُها حَمْلاً على «مَا» أختِها.
وجاءَ هنا على الواجب - عند بعضهم - أو الأحسنِ - عند آخرين - وهو الفصلُ بين «أن» الخفيفةِ وبين خبرها، إذا كان جملة فعليةً متصرفةً غير دعاءٍ، والفاصلُ: إمَّا نفي كهذه الآية، وإمَّا حرفُ تنفيس؛ كقوله تعالى:
{عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى} [المزمل: ٢٠] ، ومثله: «عَلِمْتُ أنْ سوْفَ تقُومُ» ، وإمَّا «قَدْ» ؛ كقوله تعالى: {وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} [المائدة: ١١٣] ، وإمَّا «لَوْ» - وهي غريبةٌ -؛ كقوله: {وَأَلَّوِ استقاموا} [الجن: ١٦] {أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب} [سبأ: ١٤] . وتحرَّزْتُ بالفعلية من الاسمية؛ فإنها لا تحتاج إلى فاصل؛ كقوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: ١٠] ، وكقوله: [البسيط]
٢٠٢٥ - فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْد قَدْ عَلِمُوا ... أنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ
وبالمتصرِّفةِ من غيرِ المتصرِّفة؛ فإنه لا تحتاج إلى فاصلٍ؛ كقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَاّ مَا سعى} [النجم: ٣٩] {وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ} [الأعراف: ١٨٥] ، وبغير دعاءٍ من الواقعةِ دعاءً؛ كقوله تعالى: {أَنَّ غَضَبَ الله} [النور: ٩] في قراءة نافعٍ.
ومَنْ نصب «تَكُونَ» ف «أنْ» عنده هي الناصبة للمضارعِ، دخلت على فعلٍ منفيٍّ ب «لَا» ، و «لَا» لا يمنعُ أن يعملَ ما قبلها فيما بعدها من ناصبٍ، ولا جازم، ولا جارٍّ، فالناصبُ كهذه الآية؛ والجازم كقوله تعالى: {إِلَاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: ٧٣] {إِلَاّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} [التوبة: ٤٠] ، والجارُّ نحو: «جِئْتُ بِلا زادٍ» .
و «حَسِبَ» هنا على بابها من الظَّنِّ، فالناصبة لا تقعُ بعد علْم، كما أنَّ المخففة لا تقع بعده غيرِه، وقد شَذَّ وقوعُ الناصبةِ بعد يَقِينٍ، وهو نصٌّ فيه كقوله: [البسيط]
٢٠٢٦ - نَرْضَى عَنِ النَّاسِ إنَّ النَّاسَ قَدْ عَلِمُوا ... ألَاّ يُدانِيَنَا مِنْ خَلْقِهِ بَشَرُ
وليس لقائلٍ أن يقول: العلمُ هنا بمعنى الظَّنِّ؛ إذ لا ضرورة تدعو إليه، والأكثرُ بعد أفعالِ الشكِّ النصبُ ب «أنْ» ، ولذلك أُجْمِع على النصْب في قوله تعالى: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا} [العنكبوت: ٢] ، وأمَّا قوله تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَاّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ} [طه: ٨٩] فالجمهورُ على الرفع؛ لأن الرؤية تقعُ على العلْمِ.
والحاصل أنه متى وقَعَتْ بعد علْمٍ، وجبَ أن تكونَ المخفَّفةَ، وإذا وقعت بعد ما