لأنه لو قُدِّم، فقيل:«قَامَ زَيْدٌ» ، لألبس بالفاعل، فإن قيلَ: وهذا أيضاً يُلْبِس بالفاعلِ في لغة «أكَلُونِي البَراغيثُ» ، فالجواب: أنها لغةٌ ضعيفةٌ لا نبالي بها، وضعَّفَ أبو البقاء هذا الوجه بمعنًى آخَرَ، فقال:«لأنَّ الفعل قد وقَعَ في موضِعِه، فلا يُنْوَى به غيرُه» ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسَلِّم أنه وقع موقعه، وإنما كان واقعاً لو كان مجرَّداً من علامةٍ، ومثلُ هذه الآيةِ أيضاً قوله تعالى:{وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ}[الأنبياء: ٣] .
والجمهورُ على «عَمُوا وصَمُّوا» بفتح العين والصاد، والأصل: عَمِيُوا وصَمِمُوا؛ كَشَرِبُوا، فأعِلَّ الأولُ بالحذفِ، والثَّاني بالإدغامِ، وقرأ يحيى بن وثَّاب وإبراهيم النخعي بضم العين والصاد وتخفيف الميم من «عَمُوا» ، قال الزمخشريُّ:«على تقدير عَمَاهُمُ الله وصَمَّهُمْ، أي: رَمَاهُمْ وضَرَبَهُمْ بالعَمَى والصَّمَمِ؛ كما يقال: نَزَكْتُهُ إذا ضَرَبْتَهُ بالنَّيْزَكِ، وركَبْتُهُ إذا ضَرَبْتَهُ بِرُكْبَتِكَ» ، ولم يعترضْ عليه أبو حيان - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكان قد قال قبل ذلك بعد أن حكى القراءة:«جَرَتْ مَجْرَى زُكِمَ الرجُلُ، وأزْكَمَهُ الله، وحُمَّ وأحَمَّه الله، ولا يقال: زَكَمَهُ الله ولا حَمَّهُ؛ كما لا يقال: عَمَيْتُهُ ولا صَمَمْتُه، وهي أفعالٌ جاءت مبنيَّةً للمفعول الذي لم يُسَمَّ فاعلُه، وهي متعدِّيةٌ ثلاثيةٌ، فإذا بُنيتْ للفاعلِ، صارتْ قاصرةً، فإذا أردت بناءَها للفاعلِ متعدِّيةً، أدخَلْتَ همزة النقْلِ، وهي نوعٌ غريبٌ في الأفعال» . انتهى، فقوله:«كمَا لا يُقَالُ عَمَيْتُهُ ولا صَمَمْتُهُ» يقتضي أن الثلاثيَّ منها لا يتعدَّى، والزمخشريُّ قد قال على تقدير:«عَمَاهُمُ الله وصَمَّهُمْ» فاستعملَ ثلاثيَّةُ متعدِّياً، فإن كان ما قاله أبو حيان صحيحاً، فينبغي أن يكون كلام الزمخشريِّ فاسداً أو بالعكس.
وقرأ ابن أبي عَبْلة «كَثِيراً» نصباً؛ على أنه نعتٌ لمصدر محذوف، وتقدم غيرَ مرَّة أنه عند سيبويه حالٌ، وقال مكي:«ولو نَصَبْتَ» كَثِيراً «في الكلام، لجازَ أن تجعله نعتاً لمصدر محذوف، أي: عَمى وصَمَماً كثيراً» ، قلت: كأنه لم يطَّلِعْ عليها قراءةً، أو لم تَصِحَّ عنده؛ لشذُوذها.
وقوله:«فَعَمُوا» عطفَه بالفاء، وقوله:{ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} عطفه ب «ثُمَّ» ، وهو معنى حسنٌ؛ وذلك أنهم عَقِيبَ الحُسْبَانِ، حصل لهم العمى والصَّمَمُ من غير تَرَاخٍ، وأسند الفعلين إليهم، بخلافِ قوله:{فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ}[محمد: ٢٣] ، لأنَّ هذا فيمن لم يَسْبِقْ له هدايةٌ، وأسند الفعل الحسنَ لنفسِه في قوله:{ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ} ، وعطف قوله:«ثُمَّ عَمُوا» بِحَرْفِ التراخِي؛ دلالةً على أنهم تمادَوْا في الضَّلال إلى وقْتِ التوبة.