وثانيها: أنَّه تعالى لما قال {مَّا عَلَى الرسول إِلَاّ البلاغ}[المائدة: ٩٩] وهذا ادعَاءٌ منهُ للرِّسالةِ، ثُمَّ الكُفَّار كانوا يُطالِبُونَهُ بعدَ ظُهُورِ المُعْجِزاتِ بمُعْجِزاتٍ أُخَر على سبيلِ التَّعَنُّتِ، كما حَكَى عَنْهُم قولهمُ:{لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً}[الإسراء: ٩٠] ، إلى قوله:{قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلَاّ بَشَرًا رَّسُولاً}[الإسراء: ٩٣] ، والمعنى: أنِّي رسولٌ أمِرْتُ بتبْليغِ الشَّرائِعِ والأحْكَام إلَيْكُم، واللَّه تعالى قد أقامَ الدلالة على صِحَّةِ دعْوَى الرِّسالة بإظْهَارِ أنواعٍ كثيرةٍ من المُعْجِزَات، وطلبُ الزِّيادة بَعْدَ ذلك من بابِ التَّعَنُّتِ، وذلك لَيْس في وُسْعِي، ولعلَّ إظْهَارَها يوجبُ ما يَسُوؤكُم، مثل أنَّها لو ظَهَرَتْ فكُلُّ من خالفَ بعد ذلك، اسْتَوْجَبَ العِقَابَ في الدُّنيا، ثُمَّ إنَّ المُسْلِمِينَ لمَّا سَمِعُوا مُطالبَةَ الكُفَّار للرَّسُولِ بهذه المُعْجِزَات، وقع في قُلوبِهِم مَيْلٌ إلى ظُهُورها، فَعَرفُوا في هذه الآية أنَّهم لا يَنْبَغِي أن يُطالِبُوا ذلك، فربما كان ظُهُورها يُوجبُ ما يَسُوؤهُم.
وثالثها: أنَّ هذا مُتَّصِلٌ بقوله: {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}[المائدة: ٩٩] ، فاتركُوا الأمُورَ على ظَوَاهِرِهَا، ولا تَسْألُوا عن أحْوال مُخِيفَةٍ إنْ تُبْدَ لَكُم تَسُؤكُمْ.
قوله تعالى:«عَنْ أشْيَاءَ» : متعلق ب «تَسْألُوا» . واختلف النحويُّون في «أشْيَاء» على خمسة مذاهب:
أحدها - وهو رأي الخليل وسيبويه والمازنيِّ وجمهور البصريين -: أنها اسمُ جمعٍ من لفظ «شَيْء» ، فهي مفردةٌ لفظاً جمعٌ معنًى؛ ك «طَرْفَاء» ، و «قَصْبَاء» ، وأصلها:«شَيْئاًء» بهمزتين بينهما ألفٌ، ووزنها فعلاء؛ ك «طَرْفَاء» ، فاستثقلوا اجتماع همزتين بينهما ألفٌ، لا سيما وقد سبقها حرفُ علَّة، وهي الياءُ، وكَثُر دورُ هذه اللفظةِ في لسانهم، فقلبوا الكلمةَ بأنْ قَدَّمُوا لامَها، وهي الهمزةُ الأولى على فائها، وهي الشين؛ فقالوا «أشْيَاء» فصارَ وزنُها «لَفْعَاء» ، ومُنِعَتْ من الصرف؛ لألف التأنيث الممدودة، ورُجِّح هذا المذهبُ بأنه لم يلزمْ منه شيءٌ غيرُ القَلْب، والقلبُ في لسانهم كثيرٌ ك «الجَاهِ، والحَادِي، والقسيِّ، وناءَ، وآدُرٍ، وآرَامٍ، وضِئَاء في قراءة قُنْبُل، وأيِسَ» ، والأصل:«وَجهٌ، وواحِدٌ، وقُووسٌ، ونَأى، وأدْوُرٌ، وأرَامٌ، وضِيَاء، ويَئِسَ» ، واعترضَ بعضُهم على هذا بأن القلْبَ على خلافِ الأصْلِ، وأنه لم يَرِدْ إلا ضرورةً، أو في قليلٍ من الكلام، وهذا مردودٌ بما قدَّمْتُه من الأمثلةِ، ونحن لا نُنْكِرُ أنَّ القلبَ غير مُطَّردٍ؛ وأما الشاذُّ القليلُ، فنحو قولهم:«رَعَمْلِي» في «لَعَمْرِي» ، و «شَوَاعِي» في «شَوَائع» ؛ قال:[الكامل]