يؤذِي أهْلَ النَّار بريح قصبِهِ» فقال أكْثَم أيَضُرُّنِي شَبَهُهُ يا رسُول اللَّهِ؟ قال:«لا. إنَّك مُؤمِنٌ وهو كَافِرٌ» .
فإن قيل: إذا جَاز إعْتَاقُ العَبيدِ والإماء، فَلِمَ لا يجوزُ إعْتَاقُ هذه البهائِمِ من الذَّبْحِ والإيلامِ؟ فالجوابُ من وجهين:
الأوَّل: إنَّ الإنسانَ مَخْلُوقٌ لِخِدْمة اللَّه وعُبُودِيَّتِهِ، فإذا تمرَّد عن الطَّاعَةِ، عُوقِبَ بضَرْب الرِّقِّ عَلَيْه، فإذا أُزِيلَ الرِّقُ عنه تَفَرَّغَ لعِبَادة اللَّهِ تعالى، وكان ذَلِكَ عِبَادَة مُسْتَحْسَنَة، وأمَّا هذه الحيوانَات، فإنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِمَنَافعِ المُكَلَّفين، فَتَرْكُهَا وإهمالُها يَقْتَضِي فوات مَنْفَعَةٍ على مَالِكَها، مِنْ غير أنْ يَحْصُلَ في مُقَابلَتِهَا فَائِدة.
والثاني: أنَّ الإنْسَان إذا أُعْتِق، قدَر على تَحْصِيل مَصَالِح نَفْسِه، والبَهِيمَةُ إذا عُتِقَتْ وتُرِكَت، لم تَقْدِرْ على تَحْصِيل مَصَالِحِ نَفْسِها، بل تَقَعُ في أنْواعٍ من المِحْنَة أشَدّ وأشَقّ مما كانت فيها حَالَ ما كانَتْ مَمْلوكةً، فافْتَرقَا.
فصل
قال القرطبي: تَعَلَّقَ أبُو حنيفَةَ في منعه الأحْبَاس وردِّ الأوْقَافِ، بأنَّ اللَّه تعالى عَابَ على العَرَبِ أفْعَالَهُم في تَسييب البَهَائِم وحِمَايتهَا، وحَبْس أنْفسها عَنْهَا، وقاسَ ذَلِكَ على البَحِيرَةِ والسَّائِبَةِ.
قال القُرْطُبِيُّ: والفرْقُ بَيِّنٌ، قال عَلْقَمَةُ لمن سألَهُ عن هَذِه الأشْيَاء، ما تُريدُ إلى شَيْء كان من عَمَلِ الجاهلية؟! وقد ذهب جُمْهُور العُلَمَاءِ على جَوَازِ الأحْبَاسِ والأوْقَاف، لما رَوَى نَافِعٌ، عن ابن عُمَر:«أنَّه اسْتَأذَنَ رسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بأن يَتَصَدَّق بسَهْمِه بِخَيْبَر، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» احْبِسِ الأصْل أو سبل الثَّمَرَة «.
ثم قال تعالى {ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب} .
قال ابنُ عبَّاس: يريدُ عَمْرو بن لُحَيّ وأعوانه، {يَفْتَرُونَ على الله} هذه الأكَاذِيب، ويقولون: أمرْنا بِهَا، قالُوا: وساءَ ما يَفْتَرُون على اللَّهِ الكذب، والأتْبَاعُ والعوام أكَثرهُمُ لا يَعْقِلُون.