وعن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّهُ بقيت تلك الوَاقِعَةُ مَخْفِيَّةً إلى أن أسْلَمَ تَمِيمٌ الدَّاري، فلما أسْلَمَ أخْبَرَ بذلك، فقال: حَلَفْتُ كاذباً أنا وصَاحِبِي، بعْنَا الإنَاءَ بألفٍ وقَسَّمْنَا الثَّمنَ، ثمَّ دَفَعَ خمسمائة دِرْهَم من نفسه، ونزعَ من صاحبه خمسمائةً أخرى، ودفع الألْفَ إلى مَوَالِي الميِّت، فكذلك قوله:{ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ} ، أي: ذلك الذي حَكَمْنَا به من رَدِّ اليَمينِ، أجدر وأحْرَى أن يَأتِي الوَصِيَّان بالشَّهَادَة على وجهها، وأدْنَى معناه: أقْرَبُ إلى الإتيان بالشَّهَادَة على ما كانت {أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: أقْرَبُ إلى أن يَخَافُوا رَدَّ اليمينِ بعد يَمينهمْ على المُدَّعِي، فيحلفوا على خِيَانَتِهِم وكذبهم، فَيَفْتَضِحُوا ويغرمُوا، فلا يَحْلِفُون كَاذِبين إذا خَافُوا هذا الحُكْمَ، «واتَّقُوا اللَّهَ» : أنْ تَحْلِفُوا أيْماناً كَاذِبَةً، أو تَخُونُوا أمَانَةً، «واسْمَعُوا» : الموعظة، {والله لَا يَهْدِي القوم الفاسقين} ، وهذا تَهْديدٌ ووعيدٌ لِمنْ يُخَالِفُ حُكْم اللَّهِ وأوَامِرِهِ.
روى الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في «البَسِيطِ» ، عن عُمَر بن الخطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّهُ قال: هذه الآية أعْضَلُ ما في هذه السُّورَةِ من الأحْكَامِ. ولنَرْجِع إلى إعرابِ بقيَّة الآيَة.
قوله «ذلك أدْنَى» لا محلَّ لهذه الجملةِ؛ لاستئنافِها، والمشارُ إليه الحكمُ السابقُ بتفصيله، أي: ما تقدَّم ذكرُه من الأحْكَامِ أقربُ إلى حصولِ إقامةِ الشَّهادة على ما ينبغي، وقيل: المشارُ إليه الحَبْسُ بعد الصلاة، وقيل: تحليفُ الشاهدين، و «أنْ يَأتُوا» أصلُه: «إلى أنْ يأتُوا» ، وقدَّره أبو البقاء ب «مِنْ» أيضاً، أي: أدْنَى من أن يأتُوا، وقدَّره مكيٌّ بالباء، أي: بِأنْ يَأتُوا، قال شهاب الدين: وليْسَا بواضحَيْنِ، ثم حذفَ حرفَ الجر، فَنَشَأ الخلافُ المشهور، و «عَلَى وَجْهِهَا» متعلِّقٌ ب «يَأتُوا» ، وقيل: في محلِّ نَصْبٍ على الحال منها، وقدَّره أبو البقاء ب «محققة وصَحِيحَة» ، وهو تفسيرُ معنًى؛ لما عرفْتَ غير مرة من أنَّ الأكوانَ المقيَّدة لا تُقَدَّر في مثله.
قوله:«أوْ يَخَافُوا» في نصبه وجهان:
أحدهما: أنه منصوب؛ عطفاً على «يَأتُوا» ، وفي «أوْ» على هذا تأويلان:
أحدهما: أنها على بابها من كونها لأحدِ الشيئين، والمعنى: ذلك الحكمُ أقربُ إلى حصول الشهادة على ما ينبغي، أو خوفِ رَدِّ الأيمانِ إلى غيرهم، فتسقطُ أيمانهم، والتأويلُ الآخر:[أن] تكون بمعنى الواو، أي: ذلك الحُكْمُ كله أقربُ إلى أنْ يَأتُوا، وأقربُ إلى أن يَخَافُوا، وهذا مفهومٌ من قول ابن عبَّاسٍ.